الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة العاشرة

          قطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه .

          وأجاز ذلك جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ، ومن الفقهاء مالك وأصحاب أبي حنيفة وابن سريج ، واختلف هؤلاء في الوقوع .

          والمختار جوازه عقلا ; لما ذكرناه في المسألة المتقدمة .

          وأما الوقوع فقد احتج القائلون به بأن الوصية للوالدين والأقربين - نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم : " ألا لا وصية لوارث " .

          [1] قالوا : ولا يمكن أن يقال بأن الناسخ للوصية آية الميراث ; لأن الجمع ممكن من حيث إن الميراث لا يمنع من الوصية للأجانب ، وهو ضعيف لما فيه من نسخ حكم القرآن المتواتر بخبر الآحاد ، وهو ممتنع على ما يأتي [2] ، ولأنه لا يلزم من كون الميراث مانعا من الوصية للوارث أن يكون مانعا من الوصية لغير الوارث .

          واحتجوا أيضا بأن جلد الزاني الثابت بقوله تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) نسخ بالرجم الثابت بالسنة ، وهو ضعيف لما فيه من نسخ القرآن بآحاد السنة ، وهو ممتنع على ما يأتي [3] ، وفي حق الشيخ والشيخة من جهة أنه أمكن [ ص: 154 ] أن يقال : إن نسخ الجلد بالرجم إنما كان بقرآن نسخ رسمه ، وهو ما روي عن عمر أنه قال : ( كان فيما أنزل الله : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله ورسوله )



          [4] ولا يمكن أن يقال : إن ذلك لم يكن قرآنا بما روي عن عمر أنه قال : ( لولا أنني أخشى أن يقال زاد عمر في القرآن ما ليس منه لكتبت : " الشيخ والشيخة إذا زنيا " على حاشية المصحف ) وذلك يدل على أنه لم يكن قرآنا ; لأنا نقول : غاية قول عمر الدلالة على إخراج ذلك عن المصحف والقرآن لنسخ تلاوته ، وليس فيه دلالة على أنه لم يكن قرآنا ، فإن قيل : ( الشيخ والشيخة ) لم يثبت بالتواتر ، بل بقول عمر ونسخ المتواتر بالآحاد ممتنع على ما يأتي ، وسواء كان ذلك قرآنا أو سنة .

          [ ص: 155 ] قلنا : والسنة ، وهو رجم النبي صلى الله عليه وسلم للزاني لم يثبت بالتواتر بل بطريق الآحاد ، وغايته أن الأمة مجمعة على الرجم والإجماع ليس بناسخ ، بل هو دليل وجود الناسخ المتواتر ، وليس إحالته على سنة متواترة لم تظهر لنا أولى من إحالته على قرآن متواتر لم يظهر لنا تواتره بسبب نسخ تلاوته .

          [5] وأما النافون لذلك فقد احتجوا بحجج نقلية وعقلية :

          أما النقلية فمن خمسة أوجه :

          الأول : قوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) وصف نبيه بكونه مبينا والناسخ رافع ، والرافع غير البيان .

          الثاني : قوله تعالى : ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) أخبر أنه إنما يبدل الآية بالآية لا بالسنة .

          [ ص: 156 ] الثالث : أن المشركين عند تبديل الآية مكان آية قالوا : ( إنما أنت مفتر ) فأزال الله تعالى وهمهم بقوله : ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ) وذلك يدل على أن التبديل لا يكون إلا بما نزله روح القدس .

          الرابع : قوله تعالى : ( قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) وهو دليل على أن القرآن لا ينسخ بغير القرآن .

          الخامس : قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) وذلك يدل على أن الآية لا تنسخ إلا بآية .

          وبيانه من وجوه :

          الأول : أنه قال : ( نأت بخير منها أو مثلها ) والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثله .

          الثاني : أن الله تعالى وصف نفسه بأنه الذي يأتي بخير منها ، وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن لا سنة .

          الثالث : وصف البدل بأنه خير أو مثل وكل واحد من الوصفين يدل على أن البدل من جنس المبدل ، أما المثل فظاهر ، وأما ما هو خير ; فلأنه لو قال القائل لغيره : ( لا آخذ منك درهما إلا وآتيك بخير منه ) فإنه يفيد أنه يأتيه بدرهم خير من الأول .

          الرابع : قوله تعالى : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) دل على أن الذي يأتي به هو المختص بالقدرة عليه ، وذلك هو القرآن دون غيره .

          وأما من جهة المعقول فمن وجهين :

          الأول : أن السنة إنما وجب اتباعها بالقرآن في قوله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) ، وقوله ( فاتبعوه ) وذلك يدل على أن السنة فرع القرآن ، والفرع لا يرجع على أصله بالإبطال والإسقاط ، كما لا ينسخ القرآن والسنة بالفرع المستنبط منهما وهو القياس .

          الثاني : أن القرآن أقوى من السنة ، ودليله من ثلاثة أوجه :

          الأول : قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله . قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله ، قدمه في العمل به على السنة ، والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك ، وذلك دليل قوته .

          الثاني : أنه أقوى من جهة لفظه ; لأنه معجز والسنة ليست معجزة .

          [ ص: 157 ] الثالث : أنه أقوى من حكمه حيث اعتبرت الطهارة في تلاوته عن الجنابة والحيض ، وفى مس مسطوره مطلقا ، والأقوى لا يجوز رفعه بالأضعف .

          والجواب عن الآية الأولى من ثلاثة أوجه :

          الأول : أنه يجب حمل قوله ( لتبين للناس ) على معنى لتظهر للناس ; لكونه أعم من بيان المجمل والعموم لأنه يتناول إظهار كل شيء حتى المنسوخ ، وإظهار المنسوخ أعم من إظهاره بالقرآن .

          الثاني : أن نسخ حكم الآية بيان لها فيدخل في قوله : ( لتبين للناس ) وتبين القرآن أعم من تبيينه بالقرآن .

          الثالث : أنه وإن لم يكن النسخ بيانا ؛ غير أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بكونه مبينا لا يخرجه عن اتصافه بكونه ناسخا .

          وعن الآية الثانية من وجهين :

          الأول : أنها ظاهرة في تبديل رسم آية بآية ، النزاع إنما هو في تبديل حكم الآية ، وليس فيه ما يدل على تبديل حكمها بآية أخرى .

          الثاني : أن الله تعالى أخبر أنه إذا بدل آية مكان آية قالوا : إنما أنت مفتر ، وليس في ذلك ما يدل على أن تبديل الآية لا يكون إلا بآية ، وذلك كما لو قال القائل لغيره : ( إذا أكلت في السوق سقطت عدالتك ) فإن ذلك لا يدل على أنه لا يأكل إلا في السوق .

          وعن قوله : ( قل نزله روح القدس ) أن ذلك لا يدل على امتناع نسخ القرآن بالسنة إلا أن تكون السنة لم ينزل بها روح القدس ، وليس كذلك ; إذ السنة من الوحي وإن كانت لا تتلى على ما سبق تقريره .

          وعن الآية الرابعة من وجهين :

          الأول أن قوله : ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) أي في تبديل آية مكان آية ، وليس فيه ما يدل على امتناع تبديل حكم الآية بغير الآية .

          الثاني : أن النسخ وإن كان بالسنة فهي من الوحي على ما تقدم فلم يكن متبعا إلا ما يوحى إليه به .

          وعن الآية الأخيرة من ثلاثة أوجه :

          الأول : لا نسلم دلالتها على امتناع نسخ حكم الآية بغير الآية .

          قولهم في الوجه الأول : إن السنة ليست خيرا من القرآن ولا مثله .

          [ ص: 158 ] قلنا قوله : ( ما ننسخ من آية ) إما أن يراد به نسخ رسمها أو نسخ حكمها ، فإن كان الأول فهو ممتنع فإنه وصف البدل بكونه خيرا منها ، والقرآن خير كله ولا يفضل بعضه على بعض [6] ، وإن كان الثاني فذلك يدل على أن الحكم الناسخ يكون خيرا من الحكم المنسوخ أو مثله .

          ونحن نقول به فإنه لا يمتنع أن يكون الحكم الناسخ أصلح في التكليف وأنفع للمكلف .

          وأما الوجه الثاني : فلا دلالة فيه لأن السنة إذا كانت ناسخة فالآتي بما هو خير ، إنما هو الله تعالى والرسول مبلغ ، ولا يدل ذلك على أن الناسخ لا يكون إلا قرآنا بل الإتيان بما هو خير أعم من ذلك .

          وأما الوجه الثالث : فلا دلالة فيه على لزوم المجانسة بين الآية المنسوخ حكمها وبين ناسخه ; لأنه وصفه بكونه خيرا ، والقرآن لا تفاوت فيه على ما سبق ، فعلم أن المفاضلة والمماثلة إنما هي راجعة إلى الحكم المنسوخ والحكم الناسخ على ما سبق .

          وعلى هذا فلا نسلم أنه إذا قال له : " ما آخذ منك درهما إلا وآتيك بخير منه " أنه يدل على المجانسة فإن ما هو خير أعم من الجنس ، فكأنه قال : " آتيك بشيء هو خير مما أخذت منك " والمذكور أولا ، وإن كان هو الآية والضمير في قوله " بخير منها " وإن كان عائدا إليها فلا يلزم منه المجانسة بين المضمر والمظهر .

          وأما الوجه الرابع : فنحن قائلون بموجبه ، فإن المتمكن من إزالة الحكم بما هو خير منه إنما هو الله عز وجل .

          الوجه الثاني : أن الآية تدل على أنه لا بد في نسخ كل آية من الإتيان بآية هي خير منها أو مثلها ضرورة الإخبار ، ولكن ليس في ذلك دلالة على أن الآية المأتي بها هي الناسخة لإمكان أن يكون بدلا عن الآية الأولى ، وإن كان الناسخ غيرها .

          [ ص: 159 ] الثالث : أن ظاهر الآية يتناول نسخ رسم الآية ، والأصل تنزيل اللفظ على حقيقته ، وفي حمله على نسخ الحكم صرفه إلى جهة المجاز ، وهو خلاف الأصل ، والنزاع إنما وقع في نسخ الحكم لا في نسخ الرسم .

          وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول من ثلاثة أوجه :

          الأول : أن ذلك إنما يمتنع أن لو كانت السنة رافعة لما هي فرع عليه من القرآن ، وليس كذلك بل ما هي فرع عليه غير مرفوع بها وما هو مرفوع بها ليست فرعا عليه .

          الثاني : أن ما ذكروه حجة عليهم ، فإن القرآن قد دل على وجوب الأخذ بما يأتي به الرسول ووجوب اتباعه ، فإذا أتى بنسخ حكم الآية ولم يتبع كان على خلاف ما ذكروه .

          الثالث : أن السنة ليست رافعة للقرآن وإنما هي رافعة لحكمه ، وحكمه ليس أصلا لها ، فإذا المرتفع ليس هو الأصل وما هو الأصل غير مرتفع .

          وعن المعارضة الثانية أن القرآن وإن كان معجزا في نظمه وبلاغته ومتلوا ومحترما فليس فيه ما يدل على أن دلالة كل آية منه أقوى من دلالة غيره من الأدلة ، ولهذا فإنه لو تعارض عام من الكتاب وخاص من السنة المتواترة كانت السنة مقدمة عليه .

          وكذلك أيضا لو تعارضت آية ودليل عقلي ، فإن الدليل العقلي يكون حاكما عليها ، وكذلك الإجماع وكثير من الأدلة على ما يأتي في الترجيحات .

          وعلى هذا فلا يمتنع رفع حكم الآية بدليل السنة .

          كيف وإن السنة الناسخة ليست معارضة ولا نافية لمقتضى الآية ، بل مبينة ومخصصة على ما سبق .

          [7]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية