الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( إذا أراد الإمام الخروج للاستسقاء وعظ الناس ، وأمرهم بالخروج من المظالم والتوبة من المعاصي ، قبل أن يخرج لأن المظالم والمعاصي تمنع القطر ، والدليل عليه ما روى أبو وائل عن عبد الله أنه قال : " إذا بخس المكيال حبس القطر " وقال مجاهد في قوله تعالى { ويلعنهم اللاعنون } قال [ ص: 70 ] دواب الأرض تلعنهم ، يقولون : يمنع القطر بخطاياهم ويأمرهم بصوم ثلاثة أيام قبل الخروج ويخرجون في اليوم الرابع وهم صيام ، لقوله صلى الله عليه وسلم { دعوة الصائم لا ترد } " ويأمرهم بالصدقة لأنه أرجى للإجابة ويستسقي بالخيار من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال : " اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون " ويستسقي بأهل الصلاح لما روي أن معاوية استسقى بيزيد بن الأسود فقال : " اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا ، اللهم إنا نستسقي إليك بيزيد بن الأسود ، يا يزيد ارفع يديك إلى الله تعالى ، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم ، فثارت سحابة من المغرب كأنها ترس وهبت لها ريح فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم " ويستسقى بالشيوخ والصبيان لقوله صلى الله عليه وسلم { لولا صبيان رضع وبهائم رتع وعباد لله ركع لصب عليكم العذاب صبا } قال في الأم : ولا آمر بإخراج البهائم وقال أبو إسحاق : استحب إخراج البهائم لعل الله تعالى يرحمها ، لما روي { أن سليمان صلى الله عليه وسلم خرج ليستسقي فرأى نملة تستسقي فقال : ارجعوا فإن الله تعالى سقاكم بغيركم } ويكره إخراج الكفار للاستسقاء لأنهم أعداء الله فلا يجوز أن يتوسل بهم إليه ، فإن حضروا وتميزوا لم يمنعوا لأنهم جاءوا في طلب الرزق ، والمستحب أن يتنظف للاستسقاء بغسل وسواك لأنها صلاة يسن لها الاجتماع والخطبة فشرع لها الغسل كصلاة الجمعة ، ولا يستحب أن يتطيب لها ; لأن الطيب للزينة ، وليس هذا وقت الزينة ويخرج متواضعا متبذلا لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : " { خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعا متبذلا ، متخشعا متضرعا } " ولا يؤذن لها ولا يقيم ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال { خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا } والمستحب أن ينادى لها ( الصلاة جامعة ) لأنها صلاة يشرع لها الاجتماع والخطبة ولا يسن لها الأذان والإقامة ، فيسن لها ( الصلاة جامعة ) كصلاة الكسوف " )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث : دعوة الصائم لا ترد ; رواه الترمذي من رواية أبي هريرة وقال : هو حديث حسن ولفظه " { ثلاثة لا ترد دعوتهم ، الصائم حتى يفطر ، والإمام العادل ، والمظلوم } " ورواه البيهقي وغيره أيضا من رواية أنس وقال " { دعوة الصائم والوالد والمسافر } " وحديث استسقاء عمر [ ص: 71 ] بالعباس رضي الله عنهما رواه البخاري من رواية أنس أن عمر كان يفعله ، وحديث استسقاء معاوية بيزيد مشهور وحديث " لولا صبيان رضع " رواه البيهقي من رواية أبي هريرة وغيره وقال : إسناده غير قوي ولفظه " { مهلا عن الله مهلا ، فإنه لولا شباب خشع وبهائم رتع ، وشيوخ ركع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا } " وأما حديث استسقاء النملة ، فرواه الحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين بمعناه ، فذكره بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { خرج نبي من الأنبياء يستسقي ، فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء ، فقال : ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل شأن النملة } قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد

                                      وأما حديث ابن عباس فصحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما ، قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح وقوله ( وعظ الإمام ) قال أهل اللغة : الوعظ التخويف ، والعظة الاسم منه وقال الخليل : هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب وقال الجوهري : هو النصح والتذكير بالعواقب ، يقال : وعظته وعظا وعظة فاتعظ ، أي قبل الموعظة وقال الزبيدي : الوعظ والموعظة والعظة سواء قوله ( الخروج من المظالم ، والتوبة من المعاصي ) مراده بالمظالم حقوق العباد ، وبالمعاصي حقوق الله تعالى قوله ( لما روى أبو وائل عن عبد الله ) فأبو وائل هو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي ، وهو من فضلاء التابعين أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره ، مات سنة تسع وتسعين ، وعبد الله هو بن مسعود الصحابي رضي الله عنه قوله ( وقال مجاهد ) إلى آخره هذا منقول عن مجاهد وعكرمة ، ورواه ابن ماجه في سننه في كتاب الفتن بإسناده عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده ضعيف وقيل في الآية قول ثان وهو أن اللاعنين كل شيء من حيوان وجماد إلا الجن والإنس وهو مروي عن ابن عباس والبراء بن عازب ، وقيل : هم المؤمنون من الملائكة والإنس والجن وعن قتادة أنهم الملائكة ، وقيل غيره وقوله ( يقولون يمنع القطر ) كذا وقع في النسخ ، يقولون : والأصل في الدواب تقول ، [ ص: 72 ] لأن الجمع بالواو والنون مختص بالذكور العقلاء ، وكأنها لما أضيف اللعن إليها كما يضاف إلى العقلاء حسن إجراء لفظهم عليها كقوله تعالى ( { ألهم أرجل يمشون بها } ؟ ) الآية ، وكذا قوله تعالى ( { وكل في فلك يسبحون } { رأيتهم لي ساجدين } ) ونظائره قوله ( قحطنا ) هو - بضم القاف وكسر الحاء - والقحط الجدوبة واحتباس المطر وقوله ( فتسقينا ) بفتح التاء وضمها لغتان ، كما سبق في أول الباب ، وكذا قوله ( فاسقنا ) بوصل الهمزة وقطعها ، وقوله ( كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم ) كذا هو في النسخ : أن لا يبلغوا ، وهي لغة قليلة ، والفصيح حذف ( أن ) عكس عسى فإن الفصيح فيها عسى زيد أن يقوم ، ويجوز عسى زيد يقوم

                                      قوله ( الصبيان ) بكسر الصاد وضمها لغتان حكاهما ابن دريد وغيره ( أفصحهما وأشهرهما ) الكسر ، ومثله قضبان ورضوان ، قوله ( شيوخ ركع ) قال القاضي حسين في تعليقه : قيل : هو جمع راكع أي المصلي قال : وقيل : أراد به الشيوخ الذين انحنت ظهورهم من الشيخوخة قوله ( متبذلا ) أي في ثياب البذلة - بكسر الباء - وهي التي تلبس في حال الشغل ومباشرة الخدمة ، وتصرف الإنسان في بيته ، والتخشع التذلل والتضرع والخضوع في الدعاء ، وإظهار الفقر قوله ( لأنها صلاة يسن لها الاجتماع والخطبة فشرع لها الغسل ) احتراز من الصلوات الخمس قوله ( لأنها صلاة يشرع لها الاجتماع والخطبة لا يسن لها الأذان والإقامة ) احترز بقوله : يشرع لها الاجتماع عن السنن الراتبة وبقوله ( والخطبة ) عن المكتوبات ، وبقوله ( لا يسن لها الأذان والإقامة ) عن الجمعة وقوله ( كصلاة الكسوف ) وإنما قاس عليها دون العيد ، لأن الكسوف فيها أحاديث صحيحة وليس في العيد حديث ثابت

                                      ( أما الأحكام ) فقال أصحابنا : أقل هذه الصلاة ركعتان كسائر النوافل ، وأما الأكمل فلها آداب مستحبة وليست شرطا

                                      ( أحدها ) إذا أراد الإمام الاستسقاء خطب الناس ، ووعظهم ، وذكرهم ، وأمرهم بالخروج من المظالم والتوبة من المعاصي ، ومصالحة المتشاحنين ، والصدقة والإقبال على الطاعات ، وصيام ثلاثة أيام ، ثم يخرج بهم في الرابع ، وكلهم صيام هكذا نص الشافعي في الأم ، واتفق الأصحاب على أنهم يخرجون [ ص: 73 ] في الرابع صياما ، وممن صرح به مع الشافعي الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي والقاضي أبو الطيب والماوردي وسليم الرازي والمصنف وابن الصباغ والبغوي والمتولي ، وصاحب العدة والشيخ نصر وخلائق لا يحصون ، وإنما ذكرت هؤلاء لأني رأيت من يستغرب النقل فيها لعدم أنسه ، قال الأصحاب : والفرق بينه وبين يوم عرفة فإنه يستحب للواقف بها ترك صومه لئلا يضعف عن الدعاء من وجهين ( أحدهما ) أن صلاة الاستسقاء تكون أول النهار قبل ظهور أثر الصوم في الضعف ، بخلاف الوقوف بعرفات ، فإنه آخر النهار .

                                      ( والثاني ) أن الواقف بعرفات يجتمع عليه مشاق السفر والشعث وقلة الترفه ومعالجة وعثاء السفر فإذا انضم إلى ذلك الصوم اشتد ضعفه ، وضعف عن الدعاء بخلاف المستسقي فإنه في وطنه لم ينله شيء من ذلك .



                                      ( الأدب الثاني ) يستحب أن يستسقى بالخيار من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأهل الصلاح من غيرهم ، وبالشيوخ والضعفاء والصبيان والعجائز وغير ذوات الهيئات من النساء ودليله ما ذكره المصنف ، وأيضا ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " { وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ } " قال القاضي حسين والروياني والرافعي وآخرون من أصحابنا : ويستحب أن يذكر كل واحد من القوم في نفسه ما فعله من الطاعة الجليلة ويتشفع به ويتوسل واستدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { في قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين أووا إلى غار ، فأطبقت عليهم صخرة فتوسل كل واحد بصالح عمله . فأزال الله عنهم بسؤال كل واحد ثلثا من الصخرة وخرجوا يمشون } " قال الشافعي في الأم : ولو ترك سادة العبيد العبيد يخرجون للاستسقاء كان أحب إلي ، ولا يلزمهم ذلك قال : والإماء مثل الحرائر أحب أن يؤذن لعجائزهن ومن لا هيئة لها منهن يخرجن ، ولا أحب ذلك في ذوات الهيئة ولا يجب على سادتهن الإذن في ذلك ، قال : وأحب أن يخرج الصبيان ، وينظفوا للاستسقاء ، وكبار النساء ومن لا هيئة لها منهن . هذا نصه واتفق الأصحاب عليه .

                                      ( والثالث ) قال الشافعي في الأم ( ولا آمر بإخراج البهائم ) هذا نصه [ ص: 74 ] وللأصحاب ثلاثة أوجه ( أحدها ) لا يستحب ولا يكره ، وهو ظاهر هذا النص وبه جزم سليم الرازي والمحاملي وآخرون .

                                      ( والثاني ) يكره إخراجها صاحب الحاوي عن جمهور أصحابنا ( والثالث ) يستحب إخراجها وتوقف معزولة عن الناس لما ذكره المصنف . وهذا الوجه قول أبي إسحاق حكاه أيضا صاحب الحاوي عن ابن أبي هريرة ، وبه قطع البغوي وصححه الرافعي .



                                      . ( الرابع ) قال الشافعي في الأم : وأكره إخراج الكفار ونساؤهم فيما أكره من هذا كرجالهم ، قال : ولا أكره من خروج صبيانهم مع المسلمين ما أكره من خروج بالغيهم . واتفق أصحابنا على هذا قالوا : وإنما خف أمر الصبيان لأن كفرهم ليس عنادا بخلاف الكبار . هكذا علله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما . وقال القاضي حسين ; لأن ذنبهم أخف والعلماء مختلفون في حكمهم إذا ماتوا قبل بلوغهم . وقال البغوي : قال الشافعي في الكبير يعني الجامع الكبير ( لا أكره من إخراج صبيانهم ما أكره من خروج كبارهم ، لأن ذنوبهم أقل ، ولكن يكره لكفرهم ) وهذا كله يقتضي أن أطفال الكفار كفار ، وقد اختلف العلماء فيهم إذا ماتوا قبل بلوغهم فقال الأكثرون : ( هم في النار ) وقالت طائفة : لا يحكم لهم بجنة ولا نار ، ولا نعلم حكمهم ( وقال المحققون ) هم في الجنة ، وهو الصحيح المختار وقد أوضحته بدلائله .

                                      ( والجواب ) عما يعارضها في كتاب الجنائز من شرح صحيح البخاري وسأذكره مختصرا في هذا الشرح إن شاء الله تعالى في آخر كتاب الجنائز ، أو في كتاب الردة . قال : أصحابنا فإخراج الكفار مع المسلمين للاستسقاء مكروه كما نص عليه الشافعي قال في الأم وآمر بمنعهم من الخروج قال : فإن خرجوا متميزين على حدة لم يمنعهم ، قال أصحابنا : وسواء خرجوا متميزين في يوم [ ص: 75 ] خروج المسلمين أو في غيره لا يمنعون ، هكذا صرح به صاحب الشامل والبغوي وآخرون وحكى صاحب الحاوي وجهين ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) يمنعون من خروجهم في يوم خروج المسلمين ، ولا يمنعون في غيره .



                                      ( الخامس ) يستحب أن يتنظف للاستسقاء بغسل وسواك ، وقطع الرائحة الكريهة ، ويستحب أن لا يتطيب وأن لا يخرج في زينة ، بل يخرج في ثياب بذلة - بكسر الباء - وهي ثياب المهنة ، وأن يخرج متواضعا خاشعا متذللا متضرعا ماشيا ، ولا يركب في شيء من طريق ذهابه إلا لعذر كمرض ونحوه ، ودليل هذه المسائل في الكتاب .



                                      ( السادس ) لا يؤذن لها ولا يقيم ، ويستحب أن يقال : الصلاة جامعة .



                                      ( السابع ) السنة أن يصلي في الصحراء بلا خلاف ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في الصحراء ، ولأنه يحضرها غالب الناس والصبيان والحيض والبهائم وغيرهم ، فالصحراء أوسع لهم وأرفق بهم .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في خروج أهل الذمة للاستسقاء ، قد ذكرنا أن مذهبنا أنهم يمنعون من الخروج مختلطين بالمسلمين ، ولا يمنعون من الخروج متميزين . وبه قال الزهري وابن المبارك وأبو حنيفة ، وقال مكحول : لا بأس بإخراجهم وقال إسحاق بن راهويه : لا يؤمرون ولا ينهون ، واختاره ابن المنذر .




                                      الخدمات العلمية