الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          353 - مسألة : فمن صلى إلى غير القبلة ممن يقدر على معرفة جهتها - عامدا أو ناسيا - بطلت صلاته ، ويعيد ما كان في الوقت ، إن كان عامدا ، ويعيد أبدا إن كان ناسيا برهان ذلك - : أن هذين مخاطبان بالتوجه إلى المسجد الحرام في الصلاة ; فصليا بخلاف ما أمرا به ، ولا يجزئ ما نهى الله تعالى عنه عما أمر عز وجل به ، فقد ذكرنا الحجة في أمر الناسي قبل فإن ذكر ذاكر : حديث أهل قباء رضي الله عنهم ، وأنهم ابتدءوا الصلاة إلى بيت المقدس فأتاهم الخبر : بأن القبلة قد حولت إلى الكعبة فاستداروا - كما كانوا في صلاتهم - إلى الكعبة ، واجتزءوا بما صلوا إلى بيت المقدس من تلك الصلاة بعينها . قلنا : هذا خبر صحيح ، ولا حجة فيه علينا ; ولا نخالفه ولله الحمد - : أول ذلك - أنه ليس فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ذلك فأقره ، ولا حجة إلا في القرآن ، أو في كلامه عليه السلام . أو في عمله أو فيما علم عليه السلام من عمل غيره فلم ينكره ، وإنما العجب من المالكيين الذين يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم ; ثم قد خالفوا ههنا عمل طائفة عظيمة من الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم منهم مخالف [ ص: 259 ] قال علي : أهل قباء رضي الله عنهم كان الفرض عليهم أن يصلوا إلى بيت المقدس ; فلو أنهم صلوا إلى الكعبة : لبطلت صلاتهم بلا خلاف . ولا تلزم الشريعة إلا من بلغته ، لا من لم تبلغه ، قال الله تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } . ولا شك عند أحد من الجن والإنس ، ولا الملائكة : أن من كان من المسلمين بأرض الحبشة ، أو بمكة من المستضعفين فإنهم تمادوا على الصلاة إلى بيت المقدس مدة طويلة - : أما أهل مكة فأياما كثيرة بعد نزول تحويل القبلة . وأما من بالحبشة : فلعلهم صلوا عاما أو أعواما حتى بلغهم تحويل القبلة ; فحينئذ لزمهم الفرض ، لا قبل ذلك ، فإنما لزم أهل قباء التحول حين بلغهم لا قبل ذلك فانتقلوا عن فرضهم إلى فرض ناسخ لما كانوا عليه ; وهذا هو الحق الذي لا يحل لأحد غيره ، وأما من بلغه فرض تحويل الكعبة وعلمه وكان مخاطبا به ولم يسقط تكليفه عنه لعذر مانع - : فلم يصل كما أمر ومن لم يصل كما أمر فلم يصل ; لأنه لا يجزئ ما نهى الله عنه عما أمر الله تعالى به ، وقال أبو حنيفة : من صلى في غير مكة إلى غير القبلة مجتهدا ولم يعلم إلا بعد أن سلم أجزأته صلاته . فإن صلى في ظلمة متحريا ولم يسأل من بحضرته ، ثم علم أنه صلى إلى غير القبلة : أعاد - وهو فرق فاسد ; لأن التحري نوع من الاجتهاد ، وقال مالك : من علم أنه صلى إلى غير القبلة ; فإن كان مستدبرا لها : أعاد ، وإن كان في الصلاة : قطع وابتدأ . وإن كان منحرفا إلى شرق أو غرب : لم يعد ، وبنى على ما صلى وانحرف وهذا فرق فاسد ; لأنه لا فرق عند أحد من الأمة في تعمد الانحراف عن القبلة أنه مبطل للصلاة ، وكبيرة من الكبائر كالاستدبار لها ولا فرق ، وأهل قباء كانوا مستدبرين إلى القبلة . [ ص: 260 ] ولا نعلم هذا التفريق - الذي فرقه أبو حنيفة ، ومالك - : عن أحد قبلهما ، وقال الشافعي : من خفيت عليه الدلائل والمحبوس في الظلمة ، والأعمى الذي لا دليل له - : يصلون إلى أي جهة أمكنهم ، ويعيدون إذا قدروا على معرفة القبلة . قال علي : وهذا خطأ ; لأنه إذا أمره بالصلاة لا يخلو من أن يكون أمرهم بصلاة تجزئ عنهم كما أمرهم الله بها أو أمرهم بصلاة لا تجزئ عنهم ، ولا أمرهم الله تعالى بها ولا سبيل إلى قسم ثالث - : فإن كان أمرهم بصلاة تجزئ عنهم ، وبالتي أمرهم الله تعالى بها ; فلأي معنى يصلونها ثانية ، وإن كان أمرهم بصلاة لا تجزئ عنهم ، ولا أمرهم الله تعالى بها ; فهذا أمر فاسد ، ولا يحل لآمره الأمر به ، ولا للمأمور به الائتمار به ، وقال أبو سليمان : تجزئهم على كل حال ، ويبنون إذا عرفوا وهم في الصلاة ، وقد ذكرنا الفرق آنفا . فإن قال قائل ، قد روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة { كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا حياله ، فأصبحنا : فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { فأينما تولوا فثم وجه الله } . } وعن عطاء عن جابر بن عبد الله : { كنا في سرية فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فذكر : أنهم خطوا خطوطهم في جهات اختلافهم ; فلما أصبحوا أصبنا تلك الخطوط لغير القبلة ، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { فأينما تولوا فثم وجه الله } } فإن هذين الخبرين لا يصحان ; لأن حديث عبد الله بن عامر لم يروه إلا عاصم بن عبيد الله [ ص: 261 ] ولم يرو حديث جابر إلا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء - ، وعاصم وعبد الملك ساقطان . ثم لو صحا لكانا حجة لنا ; لأن هؤلاء جهلوا ، وصلاة الجاهل تامة ; وليس الناسي كذلك - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية