الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : رجل له ألف درهم على غني أو فقير فحال عليها الحول ثم تصدق بها عليه ، أو أبرأه منها فلا زكاة عليه فيها ، ولا تجزيه من زكاة غيرها ، وإن نوى ذلك وقد بينا أن أداء الدين بزكاة المال العين لا يجوز ; لأن العين أكمل من الدين في المالية أما زكاة هذه الألف فلا إشكال أنها تسقط عنه إذا كان المديون فقيرا لأنه أوصل الحق إلى مستحقه ، وإن كان المديون غنيا فكذلك الجواب في رواية هذا الكتاب وفي رواية الجامع قال يكون ضامنا زكاتها . وجه تلك الرواية أنه كان المال عينا في يده فوهبه من غني بعد وجوب الزكاة عليه صار مستهلكا حق الفقراء ضامنا للزكاة فكذلك إذا كان دينا فأبرأه منه ; لأنه لا حق في الزكاة للغني فلا يكون في فعله إيصال الحق إلى مستحقه .

وجه هذه الرواية أن أداء الزكاة عن الدين [ ص: 36 ] لا يجب إلا بعد القبض وحين أبرأه المديون منه فقد انعدم القبض فلا يلزمه أداء الزكاة عنه والأصح ما ذكر في الجامع أنه بالإبراء صار مبطلا الدين بتصرفه فيكون بمنزلة القابض المستهلك كالمشتري إذا أعتق المبيع قبل القبض يصير قابضا حتى يتقرر عليه جميع الثمن ولو تصدق بها على فقير آخر وأمر بقبضها منه ينوي عن زكاته فإن ذلك يجزيه ; لأن ذلك الفقير وكيل من جهته في القبض فكأنه قبضها بنفسه ثم تصدق بها عليه ينوي من زكاته ، وكذلك إن قبضها ثم تصدق بها على المديون ، وهو ينوي من زكاته فإنه يجزيه إذا كان فقيرا كما لو تصدق بها على غيره ، وإن كان غنيا ، وهو يعلم بذلك لم يجزه عن الزكاة ويكون ضامنا زكاة هذه الألف على الروايتين جميعا أما على رواية الجامع فلا يشك فيه وعلى رواية هذا الكتاب فلأنه بالقبض وجب عليه أداء الزكاة فكان هبته منه كهبته من غني آخر ، وإن كان لا يعلم بغناه ثم علم بعد الأداء إليه فذلك يجزيه من الزكاة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى ومراده إذا تحرى ودفع إليه على أنه فقير وقد بينا هذا في كتاب التحري ، وكذلك لو كان المتصدق عليه ذميا فإن دفع الزكاة إلى الذمي مع العلم لا يجوز كدفعه إلى الغني .

وإن تصدق بها على والده ، أو ولده أو زوجته ، أو تصدقت المرأة بذلك على زوجها وهم لا يعلمون بذلك ثم علموا فإنه لا يجزيهم من الزكاة في رواية هذا الكتاب وفي رواية كتاب الزكاة والتحري قال يجزي ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى واستدلا فيه بحديث معن بن يزيد وقد بينا وجه تلك الرواية ووجه هذه الرواية أن النسب ، وإن كان طريق معرفته في الأصل الاجتهاد فإنه بمنزلة المقطوع به شرعا ولهذا لو نفى نسب رجل عن أبيه لزمه الحد فإنما تحول من اجتهاد إلى يقين ، ولا معتبر بالاجتهاد بعد اليقين كما لو قضى القاضي في حادثة باجتهاد ثم ظهر نص بخلافه بخلاف مسألة الغني لأن الغني والفقير مما لا يمكن الوقوف على حقيقته فإنما تحول هناك من اجتهاد إلى اجتهاد ، وكذلك لو تصدق به على عبد أبيه ، أو أمه ، وهو لا يعلم به ثم علم بعده لم يجزه عندهم جميعا ، وهذا على رواية هذا الكتاب فإن التصدق بالزكاة على عبد بمنزلة التصدق على مولاه ولهذا لو تصدق به على عبد غني ، وهو يعلم به فإنه لا يجزيه ولو تصدق به على حربي دخل إلينا بأمان ، أو بغير أمان لم يجزه على رواية هذا الكتاب إذا كان لا يعلم وفي رواية كتاب الزكاة جعله بمنزلة التصدق به على الذمي فقال يجزيه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ووجه هذه الرواية أن التصدق على [ ص: 37 ] الحربي لا يكون قربة

ألا ترى أنه لا يتنفل به ، وقد نهينا عن مبرة أهل الحرب قال الله تعالى { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين } فلا يقع فعله موقع الصدقة بخلاف التصدق به على الذمي فإنه يقع موقع الصدقة ; لأنا لم ننه عن المبرة مع من لا يقاتلنا ولهذا جاز التنفيل به

التالي السابق


الخدمات العلمية