الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن [ ص: 158 ] جرير، وابن مردويه ، من طريق قتادة ، عن أنس بن مالك، أن مالك بن صعصعة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : "بينما أنا في الحطيم - وربما قال قتادة : في الحجر – مضطجعا، إذ أتاني آت فجعل يقول لصاحبه : الأوسط بين الثلاثة . فأتاني فشق ما بين هذه إلى هذه - يعني من ثغرة نحره إلى شعرته - فاستخرج قلبي، فأوتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا وحكمة، فغسل قلبي بماء زمزم، ثم حشي ثم أعيد مكانه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أوتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار يقال له : البراق . يقع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى بي السماء الدنيا فاستفتح، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به، ولنعم المجيء جاء . ففتح لنا فلما خلصت إذا فيها آدم، فقلت : يا جبريل ، من هذا؟ قال : هذا أبوك آدم، فسلم عليه . فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم صعد حتى أتى إلى السماء الثانية فاستفتح، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا [ ص: 159 ] به ولنعم المجيء جاء . ففتح لنا، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، فقلت : يا جبريل ، من هذان؟ قال : هذان يحيى وعيسى، فسلم عليهما . فسلمت عليهما فردا السلام، ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح، قيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به، ولنعم المجيء جاء . ففتح لنا، فلما خلصت إذا يوسف، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به، ولنعم المجيء جاء . ففتح لنا، فلما خلصت إذا إدريس، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به، ولنعم المجيء جاء . فلما خلصت إذا هارون، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به، ولنعم المجيء جاء . ففتح لنا، فلما خلصت إذا أنا بموسى، [ ص: 160 ] فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح . فلما تجاوزت بكى . قيل له : ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي . ثم صعد حتى أتى السماء السابعة فاستفتح، قيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد، قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به، ولنعم المجيء جاء . ففتح لنا فلما خلصت إذا إبراهيم، قلت : [250ظ] من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه . فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا أربعة أنهار يخرجن من أصلها؛ نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت : يا جبريل ، ما هذه الأنهار؟ فقال : أما الباطنان؛ فنهران في الجنة، وأما الظاهران؛ فالنيل والفرات .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم رفع لي البيت المعمور، قلت : يا جبريل ، ما هذا؟ قال : هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه، آخر ما عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتيت بإناءين؛ أحدهما خمر والآخر لبن، فعرضا علي، فقيل : خذ [ ص: 161 ] أيهما شئت . فأخذت اللبن، فقيل لي : أصبت الفطرة، أنت عليها وأمتك . ثم فرضت علي الصلاة؛ خمسون صلاة كل يوم، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فقال : ما فرض ربك على أمتك؟ قلت : خمسين صلاة كل يوم . قال : إن أمتك لا تستطيع ذلك، وإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . فرجعت إلى ربي فحط عني خمسا، فأقبلت حتى أتيت على موسى فأنبأته بما حط عني، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا يطيقون ذلك . قال : فما زلت بين موسى وبين ربي يحط عني خمسا خمسا، حتى أقبلت بخمس صلوات، فأتيت على موسى فقال : بم أمرت؟ قلت : بخمس صلوات كل يوم . قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك، إني بلوت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . فقلت : لقد رجعت إلى ربي حتى لقد استحيت، ولكن أرضى وأسلم، فنوديت : أن يا محمد، إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي؛ وجعلت الحسنة بعشر أمثالها" .


                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 162 ] وأخرج البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن مردويه ، من طريق يونس، عن ابن شهاب، عن أنس قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء، فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء : افتح . قال : من هذا؟ قال : جبريل . قال : هل معك أحد؟ قال : نعم، معي محمد . قال : أرسل إليه؟ قال : نعم . ففتح، فلما علونا السماء الدنيا، إذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة، فإذا نظر قبل يمينه تبسم، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح . قلت لجبريل : من هذا؟ قال : هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى، ثم عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها : افتح . فقال له خازنها مثل ما قال الأول، ففتح" .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أنس : فذكر أنه وجد في السماوات آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن شهاب : وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا [ ص: 163 ] يقولان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام" . قال ابن حزم وأنس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال : ما فرض الله على أمتك؟ قلت : فرض خمسين صلاة . قال : فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك . فراجعت ربي فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال : راجع ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك . فراجعت ربي فقال : هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي . فرجعت إلى موسى فقال : ارجع إلى ربك . قلت : قد استحييت من ربي . ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها مسك" .


                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في "الدلائل"، وابن عساكر ، عن أبي سعيد الخدري قال : حدثنا رسول الله بالمدينة عن ليلة أسري به من مكة إلى المسجد الأقصى قال : "بينا أنا نائم عشاء في المسجد الحرام إذ أتاني آت فأيقظني، فاستيقظت فلم أر شيئا، وإذا أنا [ ص: 164 ] بكهيئة خيال فأتبعته بصري حتى خرجت من المسجد، فإذا أنا بدابة أدنى شبهه بدوابكم هذه بغالكم، غير أنه مضطرب الأذنين يقال له : البراق . وكانت الأنبياء تركبه قبلي، يقع حافره عند مد بصره فركبته، فبينا أنا أسير عليه إذ دعاني داع عن يميني : يا محمد، انظرني أسألك . فلم أجبه، ثم دعاني داع عن شمالي : يا محمد، انظرني أسألك . فلم أجبه، فبينا أنا أسير عليه إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها، وعليها من كل زينة خلقها الله، فقالت : يا محمد، انظرني أسألك . فلما ألتفت إليها، حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء توثقها بها، ثم أتاني جبريل بإناءين؛ أحدهما خمر والآخر لبن، فشربت اللبن وتركت الخمر، فقال جبريل : أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك . فقلت : الله أكبر الله أكبر . فقال جبريل : ما رأيت في وجهك هذا؟ قلت : بينما أنا أسير إذ دعاني داع عن يميني : يا محمد، انظرني أسألك . فلم أجبه . قال : ذاك داعي اليهود، أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك . قلت : وبينما أنا أسير إذ دعاني داع عن يساري : يا محمد، انظرني أسألك . فلم أجبه . قال : ذاك داعي النصارى، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك، فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة، تقول : يا محمد، انظرني أسألك . فلم أجبها . قال : تلك الدنيا، أما إنك [ ص: 165 ] لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين، ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم تر الخلائق أحسن من المعراج؛ أما رأيت الميت حين ربا بصره طامحا إلى السماء عجبه بالمعراج فصعدت أنا وجبريل ، فإذا أنا بملك يقال له : إسماعيل . وهو صاحب سماء الدنيا، وبين يديه سبعون ألف ملك، مع كل ملك جنده مائة ألف . فاستفتح جبريل باب السماء، قيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : أوقد بعث إليه؟ قال : نعم . فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته لم يتغير منه شيء، وإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول : روح طيبة ونفس طيبة، اجعلوها في عليين . ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار، فيقول : روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين . فقلت : يا جبريل ، من هذا؟ قال : هذا أبوك آدم . فسلم علي ورحب بي، فقال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأخونة عليها لحم قد أروح وأنتن، عندها أناس يأكلون منها، قلت : يا جبريل ، من هؤلاء؟ قال : هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام" . وفي لفظ : "فإذا أنا بقوم على مائدة عليها لحم [ ص: 166 ] مشوي كأحسن ما رأيت من اللحم، وإذا حوله جيف، فجعلوا يقبلون على الجيف يأكلون منها ويدعون اللحم، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الزناة، عمدوا إلى ما حرم الله عليهم وتركوا ما أحل الله لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر، يقول : اللهم لا تقم الساعة . وهم على سابلة آل فرعون، فتجيء السابلة فتطؤهم، فسمعتهم يضجون إلى الله، قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس [البقرة : 275] .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل، قد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار، ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله، قلت : يا جبريل ، من هؤلاء؟ قال : هؤلاء من أمتك إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا [النساء : 10] .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن، ونساء منكسات بأرجلهن، فسمعتهن يضججن إلى الله، قلت : يا جبريل ، من هؤلاء النساء؟ قال : هؤلاء اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم، ثم يدس في [ ص: 167 ] أفواههم، ويقال : كلوا كما أكلتم . فإذا أكره ما خلق الله لهم ذلك . قلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون الذين يأكلون لحوم الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم صعدنا إلى السماء الثانية، فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فضل الناس بالحسن؛ كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قلت : يا جبريل ، من هذا؟ قال : هذا أخوك يوسف ومعه نفر من قومه . فسلمت عليه وسلم علي ورحب بي . ثم صعدنا إلى السماء الثالثة، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى، ومعهما نفر من قومهما شبيه أحدهما بصاحبه؛ ثيابهما وشعرهما، فسلمت عليهما وسلما علي ورحبا بي . ثم صعدنا إلى السماء الرابعة، فإذا أنا بإدريس قد رفعه الله مكانا عليا، فسلمت عليه وسلم علي ورحب بي . ثم صعدنا إلى السماء الخامسة، فإذا أنا بهارون، ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء، تكاد لحيته تصيب سرته من طولها، قلت : يا جبريل ، من هذا؟ قال : هذا المحبب في قومه، هذا هارون بن عمران ومعه نفر كثير من قومه، فسلمت عليه وسلم علي ورحب بي . ثم صعدنا إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى بن عمران، رجل آدم، كثير الشعر، لو كان عليه قميصان خرج شعره منهما، وإذا [ ص: 168 ] هو يقول : يزعم الناس أني أكرم الخلق على الله وهذا أكرم على الله مني، ولو كان وحده لم أبال، ولكن كل نبي ومن تبعه من أمته . قلت : يا جبريل ، من هذا؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران ومعه نفر من قومه . فسلمت عليه وسلم علي ورحب بي . ثم صعدنا إلى السماء السابعة، فإذا أنا بإبراهيم، وإذا هو جالس مسند ظهره إلى البيت المعمور ومعه نفر من قومه، فسلمت عليه وسلم علي وقال : مرحبا بالابن الصالح . فقيل لي : هذا مكانك ومكان أمتك . ثم تلا إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين [آل عمران : 68] . وإذا بأمتي شطرين؛ شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس، وشطر عليهم ثياب رمد . ثم دخلت البيت المعمور، ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض، وحجب الآخرون الذين عليهم ثياب رمد، وهم على خير، فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور، ثم خرجت أنا ومن معي" . قال : "والبيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون فيه إلى يوم القيامة . ثم دفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا كل ورقة منها تكاد تغطي هذه الأمة، وإذا في أصلها عين تجري يقال لها : سلسبيل . فينشق منها نهران، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : أما هذا، فهو نهر الرحمة، وأما هذا، فهو [ ص: 169 ] نهر الكوثر الذي أعطاكه الله . فاغتسلت في نهر الرحمة، فغفر لي من ذنبي ما تقدم وما تأخر، ثم أخذت على الكوثر حتى دخلت الجنة، فإذا فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإذا أنا بأنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإذا فيها رمان كأنه جلود الإبل المقتبة، وإذا فيها طير كأنها البخت" . قال أبو بكر : يا رسول الله، إن تلك الطير لناعمة؟ قال : [251و] "آكلها أنعم منها يا أبا بكر، وإني لأرجو أن تأكل منها" . قال : "ورأيت فيها جارية لعساء، فسألتها : لمن أنت؟ فقالت : لزيد بن حارثة" . فبشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا . "ثم عرضت علي النار، فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته، ولو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها، ثم غلقت دوني .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إني رفعت إلى سدرة المنتهى، فتغشاها، فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى، ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة، ثم إن الله أمرني بأمره وفرض [ ص: 170 ] علي خمسين صلاة، وقال : لك بكل حسنة عشر، وإذا هممت بالحسنة فلم تعملها كتبت لك حسنة، فإذا عملتها كتبت لك عشرا، وإذا هممت بالسيئة فلم تعملها لم يكتب عليك شيء، فإن عملتها كتبت عليك سيئة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم دفعت إلى موسى فقال : بم أمرك ربك؟ قلت : بخمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا يطيقون ذلك . فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب، خفف عن أمتي فإنها أضعف الأمم . فوضع عني عشرا فما زلت أختلف بين موسى وربي حتى جعلها خمسا، فناداني ملك عندها : تمت فريضتي وخففت عن عبادي، وأعطيتهم لكل حسنة عشر أمثالها . ثم رجعت إلى موسى فقال : بم أمرت؟ قلت : بخمس صلوات : قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . قلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييته" .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أصبح بمكة يخبرهم بالعجائب : "إني أتيت البارحة بيت المقدس وعرج بي إلى السماء ثم رأيت كذا وكذا" . فقال أبو جهل : ألا تعجبون مما [ ص: 171 ] يقول محمد؟ قال : "فأخبرتهم بعير لقريش لما كانت في مصعدي رأيتها في مكان كذا وكذا وإنها نفرت، فلما رجعت رأيتها عند العقبة" . وأخبرتهم بكل رجل، وبعيره كذا ومتاعه كذا، فقال رجل : أنا أعلم الناس ببيت المقدس، فكيف بناؤه، وكيف هيئته، وكيف قربه من الجبل؟ فرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس فنظر إليه فقال : "بناؤه كذا، وهيئته كذا، وقربه من الجبل كذا" . فقال : صدقت .


                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر المروزي في كتاب "الصلاة"، وابن أبي حاتم ، وابن عدي، وابن مردويه ، والبيهقي في "الدلائل"، عن أبي هريرة في قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير . قال : جاء جبريل إلى النبي ومعه ميكائيل، فقال جبريل لميكائيل : ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح صدره . فشق عن بطنه، فغسله ثلاث مرات، واختلف إليه [ ص: 172 ] ميكائيل بثلاث طساس من ماء زمزم، فشرح صدره ونزع ما كان فيه من غل، وملأه حلما وعلما وإيمانا ويقينا وإسلاما، وختم بين كتفيه بخاتم النبوة، ثم أتاه بفرس فحمل عليه، كل خطوة منه منتهى بصره .

                                                                                                                                                                                                                                      فسار وسار معه جبريل ، فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا جبريل ، ما هذا؟!" . قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال : "ما هؤلاء يا جبريل ؟!" . قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والنعم، ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها، قال : "ما هؤلاء يا جبريل ؟!" . قال : هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحم آخر نيء خبيث، [ ص: 173 ] فجعلوا يأكلون من النيء الخبيث ويدعون النضيج الطيب . قال : "ما هؤلاء يا جبريل ؟!" . قال : هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا، فتأتي رجلا خبيثا فتبيت معه حتى تصبح .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته، قال : "ما هذا يا جبريل ؟!" . قال : هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها، فقال : "ما هذا يا جبريل ؟!" . قال : هذا الرجل من أمتك؛ يكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء قال : "ما هؤلاء يا جبريل ؟!" . قال : هؤلاء خطباء الفتنة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع . قال : "ما هذا يا جبريل ؟!" . قال : هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة، ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 174 ] ثم أتى على واد، فوجد ريحا طيبة باردة، وريح مسك، وسمع صوتا فقال : "يا جبريل ، ما هذا؟!" . قال : هذا صوت الجنة، تقول : يا رب، ائتني ما وعدتني، فقد كثرت غرفي وإستبرقي وحريري وسندسي وعبقريي ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي ومراكبي وعسلي ومائي ولبني وخمري، فائتني ما وعدتني . فقال : لك كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة . قالت : رضيت .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا، ووجد ريحا منتنة، فقال : "ما هذا يا جبريل ؟!" . قال : هذا صوت جهنم، تقول : رب ائتني ما وعدتني فلقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري، واشتد حري، فائتني ما وعدتني . قال : لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب . قالت : قد رضيت .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فنزل فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا : يا جبريل ، من هذا معك؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم . قالوا : أوقد بعث إليه؟! قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لقي أرواح الأنبياء، فأثنوا على ربهم، فقال إبراهيم : الحمد لله الذي [ ص: 175 ] اتخذني خليلا، وأعطاني ملكا عظيما، وجعلني أمة قانتا يؤتم بي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردا وسلاما . ثم إن موسى أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي كلمني تكليما، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون . ثم إن داود أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما، وعلمني الزبور، وألان لي الحديد، وسخر لي الجبال يسبحن والطير، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب . ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي سخر لي الرياح، وسخر لي الشياطين؛ يعملون ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير، وآتاني من كل شيء فضلا، وسخر لي جنود الشياطين والإنس والطير، وفضلني على كثير من عباده المؤمنين، وآتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي، وجعل ملكي ملكا طيبا، ليس فيه حساب . ثم إن عيسى أثنى على ربه، فقال : الحمد لله الذي جعلني كلمته، وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له : كن . فيكون . وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذنه، ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه عز وجل فقال : "كلكم أثنى على ربه، وإني مثن [ ص: 176 ] على ربي" . فقال : "الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علي الفرقان فيه بيان لكل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي أمة وسطا، وجعل أمتي هم الأولين والآخرين، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحا وخاتما" . فقال إبراهيم عليه السلام : بهذا فضلكم محمد .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم : أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء، فقيل : اشرب . فشرب منه يسيرا، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن، فقيل له : اشرب . فشرب منه حتى روي، ثم دفع إليه إناء آخر فيه الخمر، فقيل له : اشرب . فقال : لا أريده، قد رويت . فقال له جبريل : أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا قليل .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم صعد بي إلى السماء فاستفتح، فقيل : من هذا يا جبريل ؟ قال : محمد . قالوا : وقد أرسل إليه؟! قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء . فدخل، فإذا هو برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء، كما ينقص من خلق الناس، على يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، [ ص: 177 ] وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن يساره بكى وحزن، فقلت : "يا جبريل ، من هذا؟" . قال : هذا أبوك آدم، وهذا الباب الذي يمينه باب الجنة، إذا نظر إلى من يدخله من ذريته ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر إلى من يدخله من ذريته بكى وحزن .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم صعد بي جبريل إلى السماء الثانية، فاستفتح، قيل : من هذا معك؟ قال : محمد رسول الله . قالوا : وقد أرسل محمد؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فإذا هو بشابين، قال : "يا جبريل من هذان؟" . قال : عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا .

                                                                                                                                                                                                                                      فصعد به إلى السماء الثالثة، فاستفتح، فقالوا : من هذا؟ قال : جبريل . [ ص: 178 ] قالوا : ومن معك؟ قال : محمد . قالوا : أوقد أرسل؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء . فدخل، فإذا هو برجل قد فضل على الناس في الحسن كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قال : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا أخوك يوسف .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم صعد به إلى السماء الرابعة، فاستفتح، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك؟ قال : محمد . قالوا : أوقد أرسل؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء . فدخل فإذا هو برجل، قال : "من هذا يا جبريل ؟" . قال : هذا إدريس، رفعه الله مكانا عليا .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم صعد به إلى السماء الخامسة، فاستفتح، قالوا : من هذا؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك؟ قال : محمد قالوا : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء . ثم دخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقص عليهم، قال : "من هذا يا جبريل ، ومن هؤلاء الذين حوله؟" . قال : [ ص: 179 ] هذا هارون المحبب، وهؤلاء بنو إسرائيل .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم صعد به إلى السماء السادسة، فاستفتح، فقيل له : من هذا؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك؟ قال : محمد . قالوا : أوقد أرسل؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء . فإذا هو برجل جالس فجاوزه فبكى الرجل، قال : "يا جبريل من هذا؟" . قال : موسى" . قال : "فما باله يبكي؟" . قال : يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا وأنا في أخرى، فلو أنه بنفسه لم أبال، ولكن مع كل نبي أمته .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم صعد به إلى السماء السابعة، فاستفتح، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قالوا : وقد أرسل؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخل فإذا هو برجل أشمط، جالس عند باب الجنة على كرسي، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه، فخرجوا وقد خلصت ألوانهم، فصارت مثل [ ص: 180 ] ألوان أصحابهم، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم، فقال : "يا جبريل ، من هذا الأشمط، ومن هؤلاء البيض الوجوه، ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، وما هذه الأنهار التي دخلوا؟" . قال : هذا أبوك إبراهيم أول من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه، فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فتابوا فتاب الله عليهم، وأما الأنهار؛ فأولها رحمة الله، والثاني نعمة الله، والثالث سقاهم ربهم شرابا طهورا .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم انتهى إلى السدرة، قيل له : هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك . فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمرة لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما [251ظ] لا يقطعها، والورقة منها مغطية للأمة كلها، فغشيها نور الخلاق عز وجل، وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين تقع على الشجر .

                                                                                                                                                                                                                                      فكلمه تعالى عند ذلك فقال له : سل . فقال : "اتخذت إبراهيم خليلا، وأعطيته ملكا عظيما، وكلمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الجن والإنس والشياطين، وسخرت له الرياح، وأعطيته ملكا لا [ ص: 181 ] ينبغي لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذنك، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل" .

                                                                                                                                                                                                                                      فقال له ربه : وقد اتخذتك خليلا، وهو مكتوب في التوراة : حبيب الرحمن، وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا وذكرت معي، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس، وجعلت أمتك أمة وسطا، وجعلت أمتك هم الأولين والآخرين، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أول النبيين خلقا، وآخرهم بعثا، وأولهم يقضى له، وأعطيتك سبعا من المثاني لم أعطها نبيا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة "البقرة" من كنز تحت العرش لم أعطها نبيا قبلك، وأعطيتك الكوثر، وأعطيتك ثمانية أسهم؛ الإسلام والهجرة والجهاد والصلاة والصدقة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلتك فاتحا وخاتما .

                                                                                                                                                                                                                                      قال النبي صلى الله عليه وسلم : "فضلني ربي وأرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وألقى في قلب عدوي الرعب من مسيرة شهر، وأحل لي الغنائم، ولم [ ص: 182 ] تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا، وأعطيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه، وعرضت علي أمتي فلم يخف علي التابع والمتبوع، ورأيتهم أتوا على قوم ينتعلون الشعر، ورأيتهم أتوا على قوم عراض الوجوه صغار الأعين، كأنما خرمت أعينهم بالمخيط، فلم يخف علي ما هم لاقون من بعدي، وأمرت بخمسين صلاة" .

                                                                                                                                                                                                                                      فلما رجع إلى موسى قال : بم أمرت؟ قال : "بخمسين صلاة" . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك أضعف الأمم، فقد لقيت من بني إسرائيل شدة . فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه فسأله التخفيف، فوضع عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى فقال : بكم أمرت؟ قال : "بأربعين" . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . فرجع فوضع عنه عشرا، إلى أن جعلها خمسا، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : "قد رجعت إلى ربي حتى استحييت، فما أنا براجع إليه" . قيل له : أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات، فإنهن يجزين عنك خمسين صلاة، فإن كل حسنة بعشر أمثالها . فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كل الرضا . قال : وكان موسى من أشدهم عليه حين مر به، وخيرهم له حين رجع إليه .


                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية