الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  518 20 - (حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد هو ابن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: (سبعا وثمانيا)؛ لأن المراد من قوله: سبعا المغرب والعشاء، ومن قوله: (ثمانيا) الظهر والعصر على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وذلك أنه أخر المغرب إلى آخر وقته فحين فرغ منه دخل وقت العشاء، وكذلك أخر الظهر إلى آخر وقته، فلما صلاها خرج وقته ودخل وقت العصر صلى العصر، فهذا الجمع الذي قاله أصحابنا إنه جمع فعلا لا وقتا. وقيل: أشار البخاري إلى إثبات القول باشتراك الوقتين، (قلت): لا نسلم ذلك؛ لأن من تأخير الظهر إلى العصر لا يفهم ذلك ولا يستلزمه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة: الأول أبو النعمان محمد بن الفضل. الثاني حماد بن زيد. الثالث عمرو بن دينار. الرابع جابر بن زيد أبو الشعثاء. تقدم في باب الغسل بالصاع. الخامس أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه أن رواته بصريون ما خلا عمرو بن دينار، فإنه مكي.

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره، أخرجه أيضا في صلاة الليل، عن علي بن عبد الله، وأخرجه مسلم فيه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان به، وعن أبي الربيع الزهراني، عن حماد، وأخرجه أبو داود فيه، عن سليمان بن حرب، ومسدد وعمرو بن عون، ثلاثتهم عن حماد به، وأخرجه النسائي فيه، عن قتيبة، عن سفيان به، وعن حماد به، وعن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار نحوه، وعن أبي عاصم.

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه. قوله: (سبعا)؛ أي: سبع ركعات، ثلاثا للمغرب وأربعا للعشاء، وثمان ركعات للظهر والعصر، وفي الكلام لف ونشر. قوله: (الظهر) وما عطف عليه منصوبات، إما بدل أو عطف بيان، أو على الاختصاص أو على نزع الخافض؛ أي: للظهر والعصر. قوله: (أيوب) هو أيوب السختياني، والمقول له هو جابر بن زيد. قوله: (لعله)؛ أي: لعل هذا التأخير كان في ليلة [ ص: 31 ] مطيرة بفتح الميم وكسر الطاء؛ أي: كثيرة المطر. قوله: (قال: عسى)؛ أي: قال جابر بن زيد: عسى ذلك كان في الليلة المطيرة، فاسم عسى وخبره محذوفان.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): تكلمت العلماء في هذا الحديث، فأوله بعضهم على أنه جمع بعذر المطر، ويؤيد هذا ما رواه أبو داود، حدثنا القعنبي، عن مالك، عن أبي الزبير المكي، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف، ولا سفر،قال مالك: أرى ذلك كان في مطر، وأخرجه مسلم والنسائي وليس فيه كلام مالك رحمه الله.

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي: وقد اختلف الناس في جواز الجمع بين الصلاتين للمطر في الحضر، فأجازه جماعة من السلف، روي ذلك، عن ابن عمر، وفعله عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو سلمة، وعامة فقهاء المدينة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل غير أن الشافعي اشترط في ذلك أن يكون المطر قائما في وقت افتتاح الصلاتين معا، وكذلك قال أبو ثور ولم يشترط ذلك غيرهما، وكان مالك يرى أن يجمع الممطور في الطين، وفي حالة الظلمة، وهو قول عمر بن عبد العزيز .

                                                                                                                                                                                  وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي: يصلي الممطور كل صلاة في وقتها، (قلت): هذا التأويل ترده الرواية الأخرى من غير خوف ولا مطر، وأوله بعضهم على أنه كان في غيم فصلى الظهر، ثم انكشف وبان أن أول وقت العصر دخل فصلاها، وهذا باطل؛ لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر، فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء، وأوله آخرون على أنه كان بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي ، وهو قول أحمد والقاضي حسين من أصحابنا، واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا، وهو المختار؛ لتأويله لظاهر الحديث ولأن المشقة فيه أشق من المطر، (قلت): هذا أيضا ضعيف؛ لأنه مخالف لظاهر الحديث، وتقييده بعذر المطر ترجيح بلا مرجح، وتخصيص بلا مخصص، وهو باطل، وأحسن التأويلات في هذا وأقربها إلى القبول أنه على تأخير الأولى إلى آخر وقتها، فصلاها فيه فلما فرغ عنها دخلت الثانية فصلاها، ويؤيد هذا التأويل ويبطل غيره ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع، فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها، وهذا الحديث يبطل العمل بكل حديث فيه جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، سواء كان في حضر أو سفر أو غيرهما، فإن قلت: في حديث ابن عمر إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، رواه أبو داود وغيره، وهذا صريح في الجمع في وقت إحدى الصلاتين.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : وفيه إبطال تأويل الحنفية في قولهم: إن المراد بالجمع تأخير الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الثانية إلى أول وقتها، ومثله في حديث أنس إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، وهو صريح في الجمع بين الصلاتين في وقت الثانية، والرواية الأخرى أوضح دلالة، وهي قوله: (إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر)، ثم يجمع بينهما، وفي الرواية الأخرى: ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتى يغيب الشفق، (قلت): الجواب عن الأول: أن الشفق نوعان أحمر وأبيض، كما اختلف العلماء من الصحابة وغيرهم فيه، ويحتمل أنه جمع بينهما بعد غياب الأحمر، فتكون المغرب في وقتها على قول من يقول الشفق هو الأبيض، وكذلك العشاء تكون في وقتها على قول من يقول الشفق هو الأحمر، ويطلق عليه أنه جمع بينهما بعد غياب الشفق، والحال أنه صلى كل واحدة منهما في وقتها على اختلاف القولين في تفسير الشفق، وهذا مما فتح لي من الفيض الإلهي.

                                                                                                                                                                                  وفيه إبطال لقول من ادعى بطلان تأويل الحنفية في الحديث المذكور، والجواب عن الثاني أن معنى قوله: (أخر الظهر إلى وقت العصر) أخره إلى وقته الذي يتصل به وقت العصر فصلى الظهر في آخر وقته، ثم صلى العصر متصلا به في أول وقت العصر، فيطلق عليه أنه جمع بينهما لكنه فعلا لا وقتا، والجواب عن الثالث: أن أول وقت العصر مختلف فيه، كما عرف، وهو إما بصيرورة ظل كل شيء مثله، أو مثليه، فيحتمل أنه أخر الظهر إلى أن صار ظل كل شيء مثله، ثم صلاها وصلى عقيبها العصر، فيكون قد صلى الظهر في وقتها على قول من يرى أن آخر وقت الظهر بصيرورة ظل كل شيء مثله، ويكون قد صلى العصر في وقتها على قول من يرى أن أول [ ص: 32 ] وقتها بصيرورة ظل كل شيء مثليه، ويصدق على من فعل هذا أنه جمع بينهما في أول وقت العصر، والحال أنه قد صلى كل واحدة منهما في وقتها على اختلاف القولين في أول وقت العصر، ومثل هذا لو فعل المقيم يجوز، فضلا عن المسافر الذي يحتاج إلى التخفيف، فإن قلت: قد ذكر البيهقي في باب الجمع بين الصلاتين في السفر، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه سار حتى غاب الشفق، فنزل فجمع بينهما، رواه أبو داود وغيره، وفيه: أخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هو؛ أي: ساعة من الليل، ثم نزل فصلى المغرب والعشاء، (قلت): لم يذكر سنده حتى ينظر فيه، وروى النسائي خلاف هذا، وفيه: كان - صلى الله عليه وسلم - إذا جد به أمر أو جد به السير جمع بين المغرب والعشاء، فإن قلت: قد قال البيهقي ورواه يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع فذكر أنه سار قريبا من ربع الليل، ثم نزل فصلى، (قلت): أسنده في (الخلافيات) من حديث يزيد بن هارون بسنده المذكور ولفظه: فسرنا أميالا ثم نزل فصلى، قال يحيى: فحدثني نافع هذا الحديث مرة أخرى، فقال: سرنا حتى إذا كان قريبا من ربع الليل نزل فصلى، فلفظه مضطرب، كما ترى قد روي على وجهين فاقتصر البيهقي في (السنن) على ما يوافق مقصوده، واستدل جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث على جواز الجمع في الحضر للحاجة، لكن بشرط أن لا يتخذ عادة، وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما وقع عند مسلم في هذا الحديث من طريق سعيد بن جبير قال: فقلت لابن عباس : لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته، وللنسائي من طريق عمرو بن هرم، عن أبي الشعثاء أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء، فعل ذلك من شغل، وروى مسلم من طريق عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس المذكور كان بالخطبة، وأنه خطب بعد صلاة العصر إلى أن بدت النجوم، ثم جمع بين المغرب والعشاء، والذي ذكره ابن عباس من التعليل بنفي الحرج جاء مثله، عن ابن مسعود مرفوعا أخرجه الطبراني ولفظه: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك، فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمتي، (قلت): قال الخطابي في هذا الحديث: رواه مسلم، عن ابن عباس، هذا حديث لا يقول به أكثر الفقهاء.

                                                                                                                                                                                  وقال الترمذي : ليس في كتابي حديث أجمعت العلماء على ترك العمل به، إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، وأما الذي أخرجه الطبراني فيرده ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود : ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير وقتها، الحديث، وقد ذكرناه عن قريب.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية