الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        723 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) زاد الحميدي عن سفيان " فيها " كذا في مسنده . وهكذا رواه يعقوب بن سفيان عن الحميدي ، أخرجه البيهقي . وكذا لابن أبي عمر عند الإسماعيلي ، ولقتيبة وعثمان بن أبي شيبة عند أبي نعيم في المستخرج ، وهذا يعين أن المراد القراءة في نفس الصلاة ، قال عياض : قيل يحمل على نفي الذات وصفاتها ، لكن الذات غير منتفية فيخص بدليل خارج ، ونوزع في تسليم عدم نفي الذات على الإطلاق ؛ لأنه إن ادعى أن المراد بالصلاة معناها اللغوي فغير مسلم ؛ لأن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه ؛ لأنه المحتاج إليه فيه لكونه بعث لبيان الشرعيات لا لبيان موضوعات اللغة ، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام دعوى نفي الذات ، فعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار الإجزاء ولا الكمال ؛ لأنه يؤدي إلى الإجمال كما نقل عن القاضي أبي بكر وغيره حتى مال إلى التوقف ؛ لأن نفي الكمال يشعر بحصول الإجزاء فلو قدر الإجزاء منتفيا لأجل العموم قدر ثابتا لأجل إشعار نفي الكمال بثبوته فيتناقض ، ولا سبيل إلى إضمارهما معا ؛ لأن الإضمار إنما احتيج إليه للضرورة ، وهي مندفعة بإضمار فرد فلا حاجة إلى أكثر منه ، ودعوى إضمار أحدهما ليست بأولى من الآخر ، قاله ابن دقيق العيد .

                                                                                                                                                                                                        وفي هذا الأخير نظر ؛ لأنا إن سلمنا تعذر الحمل على الحقيقة فالحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة أولى من الحمل على أبعدهما ، ونفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم ؛ ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس فيكون أولى ، ويؤيده رواية الإسماعيلي من طريق العباس بن الوليد النرسي أحد شيوخ البخاري عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وتابعه على ذلك زياد بن أيوب أحد الأثبات أخرجه الدارقطني ، وله شاهد من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا بهذا اللفظ ، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما ، ولأحمد من طريق عبد الله بن سوادة القشيري عن رجل عن أبيه مرفوعا لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن وقد أخرج ابن خزيمة عن محمد بن الوليد القرشي عن سفيان حديث الباب بلفظ لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فيمتنع أن يقال : إن قوله " لا صلاة " نفي بمعنى النهي أي : لا تصلوا إلا بقراءة [ ص: 283 ] فاتحة الكتاب ، ونظيره ما رواه مسلم من طريق القاسم عن عائشة مرفوعا لا صلاة بحضرة الطعام فإنه في صحيح ابن حبان بلفظ لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام أخرجه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل وغيره عن يعقوب بن مجاهد عن القاسم ، وابن حبان من طريق حسين بن علي وغيره عن يعقوب به ، وأخرج له ابن حبان أيضا شاهدا من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ ، وقد قال بوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة الحنفية لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطا في صحة الصلاة ؛ لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة ، والذي لا تتم الصلاة إلا به فرض ، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن ، وقد قال تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن فالفرض قراءة ما تيسر ، وتعيين الفاتحة إنما ثبت بالحديث فيكون واجبا يأثم من يتركه وتجزئ الصلاة بدونه ، وإذا تقرر ذلك لا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم وترك الطمأنينة فيصلي صلاة يريد أن يتقرب بها إلى الله تعالى وهو يتعمد ارتكاب الإثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره .

                                                                                                                                                                                                        واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بناء على أن الركعة الواحدة تسمى صلاة لو تجردت ، وفيه نظر ؛ لأن قراءتها في ركعة واحدة من الرباعية مثلا يقتضي حصول اسم قراءتها في تلك الصلاة ، والأصل عدم وجوب الزيادة على المرة الواحدة ، والأصل أيضا عدم إطلاق الكل على البعض ؛ لأن الظهر مثلا كلها صلاة واحدة حقيقة كما صرح به في حديث الإسراء حيث سمى المكتوبات خمسا ، وكذا حديث عبادة " خمس صلوات كتبهن الله على العباد " وغير ذلك ، فإطلاق الصلاة على ركعة منها يكون مجازا ، قال الشيخ تقي الدين : وغاية ما في هذا البحث أن يكون في الحديث دلالة مفهوم على صحة الصلاة بقراءة الفاتحة في كل ركعة واحدة منها ، فإن دل دليل خارج منطوق على وجوبها في كل ركعة كان مقدما . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وقال بمقتضى هذا البحث الحسن البصري رواه عنه ابن المنذر بإسناد صحيح ، ودليل الجمهور قوله - صلى الله عليه وسلم - وافعل ذلك في صلاتك كلها بعد أن أمره بالقراءة ، وفي رواية لأحمد وابن حبان ثم افعل ذلك في كل ركعة ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري له عقب حديث عبادة " واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم سواء أسر الإمام أم جهر ؛ لأن صلاته صلاة حقيقة فتنتفي عند انتفاء القراءة إلا إن جاء دليل يقتضي تخصيص صلاة المأموم من هذا العموم فيقدم ، قاله الشيخ تقي الدين ، واستدل من أسقطها عن المأموم مطلقا كالحنفية بحديث من صلى خلف إمام فقراءة الإمام له قراءة لكنه حديث ضعيف عند الحفاظ ، وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني وغيره ، واستدل من أسقطها عنه في الجهرية كالمالكية بحديث وإذا قرأ فأنصتوا وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري ، ولا دلالة فيه لإمكان الجمع بين الأمرين : فينصت فيما عدا الفاتحة ، أو ينصت إذا قرأ الإمام ويقرأ إذا سكت ، وعلى هذا فيتعين على الإمام السكوت في الجهرية ليقرأ المأموم لئلا يوقعه في ارتكاب النهي حيث لا ينصت إذا قرأ الإمام ، وقد ثبت الإذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بغير قيد ، وذلك فيما أخرجه البخاري في " جزء القراءة " والترمذي وابن حبان وغيرهما من رواية مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثقلت عليه القراءة في الفجر ، فلما فرغ قال : لعلكم تقرءون خلف إمامكم ؟ قلنا : نعم . قال : فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب ، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها والظاهر أن حديث الباب مختصر من هذا وكان هذا سببه والله أعلم . وله شاهد من حديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي ، ومن حديث أنس عند ابن حبان ، وروى عبد الرزاق [ ص: 284 ] عن سعيد بن جبير قال : لا بد من أم القرآن ، ولكن من مضى كان الإمام يسكت ساعة قدر ما يقرأ المأموم بأم القرآن .

                                                                                                                                                                                                        ( فائدة ) : زاد معمر عن الزهري في آخر حديث الباب " فصاعدا " أخرجه النسائي وغيره ، واستدل به على وجوب قدر زائد على الفاتحة . وتعقب بأنه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة ، قال البخاري في " جزء القراءة " : هو نظير قوله " تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا " وادعى ابن حبان والقرطبي وغيرهما الإجماع على عدم وجوب قدر زائد عليها ، وفيه نظر لثبوته عن بعض الصحابة ومن بعدهم فيما رواهابن المنذر وغيره ، ولعلهم أرادوا أن الأمر استقر على ذلك ، وسيأتي بعد ثمانية أبواب حديث أبي هريرة " وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت " ولابن خزيمة من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فصلى ركعتين لم يقرأ فيها إلا بفاتحة الكتاب .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية