الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ) الإشارة إلى كل ما تقدم من أمر ونهي ، أي هو خير لكم في دينكم ودنياكم لا تكليف إعنات ، فربكم لا يأمركم إلا بما هو نافع لكم ، ولا ينهاكم إلا عما هو ضار بكم ، وهو على كل حال غني عنكم ، ولو شاء لأعنتكم ولكنه رحيم لا يفعل ذلك ، وإنما تتحقق لكم خيرية ما ذكر إن كنتم مؤمنين بوحدانيته وصفاته تعالى وبرسوله وما جاءكم به عنه سبحانه من الدين والشرع وسيأتي تعليل ذلك بعد بيان ما قيل في هذا الإيمان .

                          فسر بعضهم الإيمان هنا بالتصديق اللغوي ، أي اعتقاد صحة قوله عليه السلام لما هو معروف به عندهم من الصدق والأمانة والنصح بناء على أن خيرية الأوامر والنواهي الدنيوية لا تتوقف على عبادة الله وحده والإيمان برسالة رسوله . وذهب بعض المفسرين إلى أن الإشارة إلى قوله : ( فأوفوا الكيل ) وما بعده دون ما قبله من الأمر بعبادة الله وحده تعالى ، وقال الطيبي : إن مثل هذا الشرط إنما يجاء به في آخر الكلام للتأكيد . وقال القطب الرازي : إن [ ص: 471 ] ذلك ليس شرطا للخيرية نفسها بل لفعلهم ، كأنه قيل : فأتوا به إن كنتم مصدقين بي . فلا يرد أنه لا توقف للخيرية في الإنسانية على تصديقهم به . وقد أطالوا الاحتمالات في الآية حتى زعم الخيالي أن قوله : ( ذلكم خير لكم ) جملة معترضة وهو من خيالاته الغريبة التي انفرد بها .

                          والصواب أن هذا التذييل كأمثاله في القرآن مقصود بالذات ، وأن المعنى : ذلكم الذي أمرتكم به من عبادة الله وحده وعدم إشراك شيء من خلقه في عبادته لما ترون فيه من خير ترجونه أو ضر تخافونه - ومن إيفاء الكيل والميزان بالقسط . وما نهيتكم عنه من الإفساد في الأرض - ذلكم كله خير لكم في معاشكم ومعادكم . وإنما تتحقق خيريته لكم إن كنتم مؤمنين بالله ورسوله وما جاءكم به من هذه الأوامر والنواهي وغيرها . ذلك بأن الإيمان يقتضي الاتباع والامتثال والعمل بجميع ما جاء به الرسول من عند الله وإن خالف الهوى أو لم تظهر له فائدته ومنفعته بادي الرأي ، بل يقتضيه حتى فيما يظن المؤمن أنه مناف لمصلحته ، فتحصل له فوائده ومنافعه وإن لم يعلم أنه علة أو سبب لها بحسب حكمة الله وسننه التي أقام بها نظام العالم الإنساني . فكيف إذا علم ذلك بالتفقه في الدين والوقوف على حكمه وأسراره - ككون التوحيد واجتناب نزعات الشرك ترفع قدر الإنسان ، وتطهر عقله ونفسه في الخرافات والأوهام وتعتق إرادته من العبودية والذلة لمخلوق مثله مساو له في كونه مخلوقا مسخرا لإرادة الخالق وسننه ، وإن فاقه في عظمة الخلق أو عظم المنفعة كالشمس ، أو بعض الصفات أو الخصائص كالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما عبد من دون الله ، أو في الملك والسلطان فإن بعض الناس قد عبدوا الملوك الجبارين فاتخذوهم آلهة وأربابا ، ومنهم من لا يزال يذل لهم ويطيعهم ولو في الباطل والجور خوفا منهم ، أو رجاء في رفدهم ، وليس هذا من شأن الموحدين ، قال تعالى : ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) ( 3 : 175 ) فالمؤمن الموحد لا يخضع لأحد لذاته إلا لربه وإلهه ، وإنما يطيع رسوله لأنه مبلغ عنه ، قال تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ( 4 : 80 ) وقال خاتم رسله : " إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر " رواه أحمد ومسلم من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وقال : " إنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب ، ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله " رواه أحمد [ ص: 472 ] وابن ماجه من حديث طلحة رضي الله عنه بسند صحيح وقال : " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " رواه الجماعة كلها من حديث أم سلمة رضي الله عنهما وفي رواية " فلا يأخذه " بدل تخيير التهديد . وفي بعضها " من حق أخيه " بدلا من " بحق مسلم " وأجمع العلماء على أن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له . وأن الذمي والمعاهد كذلك . ومعلوم أن الذمي هو الخاضع لأحكامنا من غير المسلمين ، والمعاهد من بيننا وبينه أو بين قومه معاهدة على السلم والمراد : أن غير المسلم إذا لم يكن حربيا فهو مساو للمسلمين في احترام ماله ونفسه وعرضه وفي أحكام الشريعة التي تصدر بذلك . والشاهد المراد لنا من الحديث أن الحق في شرع الله تعالى مقصود لذاته ، وإن حكم الحاكم ولو كان رسولا من رسل الله إنما ينفذ على الظاهر لأنه حكم بالظاهر دون الباطن ، فإذا علم المحكوم له أنه خطأ في الواقع لم يحل له ديانة والحديث ليس نصا في وقوع الخطإ أو جوازه منه صلى الله عليه وسلم إذ يصح أن يكون قاله على سبيل الفرض ، حتى لا يستعين أحد بخلابة اللسان لدى الحكام على القضاء له بالباطل . والذين قالوا بجواز خطإ الأنبياء في اجتهادهم قالوا إن الله تعالى لا يقرهم عليها على أن الحكم هنا بالبينة ، وهي إنما تكون بحسب الظاهر لا بمحض الاجتهاد ، وهذه المباحث ليست من موضوعنا هنا .

                          هذا مثال لكون التوحيد في العبادة هو لمصلحة الناس وتكريمهم وإعلاء شأنهم ، وكذلك سائر العبادات وأحكام الحظر والإباحة ، حتى ما يسمونه في عرف هذا العصر بالأحكام المدنية - قد شرعت لدفع المفاسد وتقرير المصالح العامة والخاصة ، وترى غير المؤمن المتدين لا يلتزم اجتناب كل مفسدة بل يستبيح ما يراه نافعا له وإن كان ضارا بغيره فردا كان أو جماعة أو أمة بأسرها ، فإن مجرد العلم بكون الأمانة خيرا من الخيانة ، وكون القسط في البيع والشراء وسائر المعاملات خيرا من الغش والخيانة وبخس الحقوق - لا يكفي لحمل الجمهور على العمل به أولا ؛ لأن هذا العلم إجمالي يعرض له عند التفصيل ضروب من الأشكال [ ص: 473 ] في تحديد الأمانة والخيانة والقسط والبخس ، وضروب من الهوى في تطبيق حدودها أو رسومها على جزئياتها ، وضروب من التأويل والشبهات في المساواة فيها بين القريب والغريب والصديق والعدو والضعيف والقوي والفقير والغني . وأما الدين فيوجب على المؤمن إقامة العدل لذاته بالمساواة كما قال تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ) ( 5 : 8 ) ويقول : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) .

                          لم يصل البشر في عصر من عصور التاريخ إلى عشر ما وصلوا إليه في هذا العصر من العلم بالمنافع والمضار والمصالح والمفاسد في الاجتماع البشري في معاملاته وآدابه حتى زعم كثير من الباحثين والمفكرين منهم أنه يمكن الاستغناء بالعلم عن الدين في تربية الأحداث بإقناعهم بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل ، ومضار الرذائل كأضدادها ، وأن هذا أهدى وأقوى إقناعا من التبشير بثواب الآخرة والإنذار بعذابها . ولكنا نرى رؤساء أو وزراء أرقى الأمم في هذه العلوم يقترفون أفحش الرذائل بالتأويل لها ، وتسميتها بغير أسمائها ، وبالخفاء والحيل ، وما زالوا يراءون الناس في ذلك حتى فضحتهم وفضحت شعوبهم الحرب الأخيرة ، فثبت بها أنهم شر البشر وأعرقهم في الرذائل العامة كالإفساد في الأرض بالظلم والطمع . والمباراة في وسائل إفساد الشعوب صحة وأخلاقا واستذلالا ، لأجل الاستلذاذ باستبعادها ، والاستئثار بثمرات أعمالها . على أنهم يمنون عليها بذلك زعما منهم أنهم يجذبونها به إلى حضارتهم الملعونة المبنية على الإسراف في الشهوات ، واستحلال الفواحش والمنكرات وجعل ذلك من الحرية الشخصية التي يبالغون في مدحها ، وعد هذا الإطلاق سببا للكمال فيها .

                          هذا وإن منهم من يدعي الجمع بين علوم الحقوق والآداب والفضائل وسنن الاجتماع ، وبين دين المبالغة في الزهد والعفة والتواضع والإيثار ، وهي الملة المسيحية التي يفتخرون بوصف أممهم بها ، وهم أبعد من جميع خلق الله عنها - فالتحقيق الذي ثبت بالدلائل العقلية والنقلية والتجارب الدقيقة أن ملكات الفضائل لا تنطبع في الأنفس إلا بالتربية الدينية كما بيناه [ ص: 474 ] في مواضع أخرى ؛ ولذلك تقل السرقة والخيانة في البلاد التي يغلب على أهلها التدين الصحيح كبلاد نجد وأكثر بلاد اليمن على قلة وسائل المحافظة على الأموال فيهما ، وتكثر في غيرها على كثرة تلك الوسائل .

                          ومن عجيب أمر حكومتنا المصرية أنها تقلد الإفرنج في نظام التعليم وفي إطلاق الحرية الشخصية ، وتغفل عما يجب من التربية الدينية . حتى إن أداء الصلاة في مدارسها اختياري لا يطالب به التلاميذ والطلاب ولا ينكر عليهم تركه . وقد فشت في البلاد الجرائم من قتل وسلب وإفساد زرع وفسق وفجور ، وقد اتخذت عدة وسائل لتقليل هذه الجنايات بعد أن عقدت عدة لجان لدرسها ولكنها لم تأت أدنى عمل لمقاومتها بالتربية الدينية للنابتة ، وبث الوعظ والإرشاد في العامة . وهو أقرب الوسائل لمنع الفساد في الأرض ؛ لأن الوازع النفسي أقوى وأعم من الوازع الخارجي . وإن كان لا بد من الجمع بينهما ، كما قال الله تعالى :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية