الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه قال دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب فقال عمر أية ساعة هذه فقال يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت فقال عمر والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          229 227 - ( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ) بن عمر كذا رواه الأكثر عن مالك مرسلا لم يقولوا عن أبيه ، ورواه روح بن عبادة وجويرية بن أسماء وأبو عاصم النبيل وابن مهدي وإبراهيم بن طهمان ويحيى بن مالك بن أنس وغيرهم عن مالك موصولا فقالوا عن ابن عمر ، وقد أخرجه البخاري من طريق جويرية بن أسماء عن مالك ومسلم من طريق ابن وهب عن يونس كلاهما عن الزهري عن سالم عن أبيه وكذا وصله معمر عن الزهري عند أحمد وأبو أويس عند قاسم بن أصبغ بذكر ابن عمر .

                                                                                                          ( أنه قال : دخل رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) هو عثمان بن عفان كما سماه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في روايتهما للموطأ ، وكذا سماه معمر عن الزهري عند الشافعي ، وعبد الرزاق وابن وهب في روايته عن أسامة بن زيد الليثي عن نافع عن ابن عمر ، وكذا سماه أبو هريرة عند مسلم قال ابن عبد البر : لا أعلم خلافا في ذلك ( المسجد يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب ) وفي رواية جويرية : أن عمر بينما هو قائم في الخطبة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فناداه عمر ( فقال عمر : أية ساعة هذه ؟ ) بشد التحتية تأنيث أي يستفهم بها ، والساعة اسم لجزء من الزمان مقدر ويطلق على الوقت الحاضر وهو المراد هنا ، وهذا استفهام توبيخ وإنكار كأنه يقول : لم تأخرت إلى هذه الساعة ؟ وقد ورد التصريح بالإنكار في رواية أبي هريرة بلفظ : فقال عمر : لم تحتبسون عن الصلاة ؟ ولمسلم فعرض به عمر فقال : ما بال رجال يتأخرون بعد النداء ؟ قال الحافظ : والذي يظهر أن عمر قال ذلك كله فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر ، ومراد عمر التلميح إلى ساعات التبكير التي وقع الترغيب فيها وأنها إذا طوت الملائكة الصحف ، وهذا من أحسن التعريضات وأرشق الكنايات ، وفهم عثمان ذلك فبادر إلى الاعتذار عن التأخير ( فقال : يا أمير المؤمنين انقلبت ) أي ( من السوق ) روى أشهب عن مالك في العتبية أن الصحابة كانوا يكرهون ترك العمل يوم الجمعة على نحو تعظيم اليهود السبت والنصارى الأحد ( فسمعت النداء ) أي الأذان بين يدي الخطيب ، وفي رواية جويرية : إني شغلت فلم [ ص: 375 ] أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين ( فما زدت على أن توضأت ) أي لم أشتغل بشيء بعد أن سمعت النداء إلا بالوضوء ( فقال عمر ) إنكار آخر على ترك السنة المؤكدة وهي الغسل ( الوضوء ) بالنصب أي أتتوضأ الوضوء مقتصرا عليه وبالرفع مبتدأ حذف خبره أي تقتصر عليه أو خبر مبتدؤه محذوف أي كفايتك الوضوء .

                                                                                                          وقال ابن السيد : يروى بالرفع على لفظ الخبر والصواب أن آلوضوء بالمد على لفظ الاستفهام كقوله تعالى : آلله أذن لكم ( سورة يونس : الآية 59 ) فهمزة الاستفهام داخلة على همزة الوصل ، هكذا رواية الموطأ الوضوء بلا واو ، وفي البخاري من رواية جويرية بن أسماء عن مالك فقال : والوضوء بالواو بإسقاط لفظ عمر ، ولمسلم بإثبات عمر والواو وهو كما اقتصر عليه النووي عطفا على الإنكار الأول أي والوضوء أيضا اقتصرت عليه أو اخترته دون الغسل ، والمعنى : أما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغسل واقتصرت على الوضوء ؟ وجوز القرطبي الرفع على أنه مبتدأ حذف خبره أي والوضوء تقتصر عليه ، وأغرب السهيلي فقال : اتفق الرواة على الرفع لأن النصب يخرجه إلى معنى الإنكار يعني والوضوء لا ينكر ، قال الحافظ : وجوابه ما تقدم أي من عطفه على الإنكار الأول والظاهر أن الواو عاطفة .

                                                                                                          وقال القرطبي : هي عوض عن همزة الاستفهام كقراءة ابن كثير : قال فرعون آمنتم به ( سورة الأعراف : الآية 123 ) وتعقبه في المصابيح بأن تخفيف الهمزة بإبدالها واوا صحيح في الآية لوقوعها مفتوحة بعد ضمة ، وأما في الحديث فليس كذلك لوقوعها مفتوحة بعد فتح فلا وجه لإبدالها فيه واوا ، ولو جعله على حذف الهمزة أي أو تخص الوضوء لجرى على مذهب الأخفش في جواز حذفها قياسا عند أمن اللبس والقرينة الحالية المقتضية للإنكار شاهدة بذلك فلا لبس اهـ .

                                                                                                          وهو مبني على إسقاط لفظ عمر كما في رواية البخاري ، أما على إثباتها كما في مسلم فتوجيه القرطبي وجيه ( أيضا ) مصدر آض يئيض أي عاد ورجع ، أي ألم يكفك أن فاتك فضل المبادرة إلى الجمعة حتى أضفت إليه ترك الغسل ؟ ( و ) الحال أنك ( قد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل ) كذا في جميع الروايات لم يذكر المأمور إلا أن في رواية جويرية عن نافع عن ابن عمر عند الطحاوي وغيره أن عمر قال : أما علمت أنا كنا نؤمر ؟ والطحاوي عن ابن عباس أن عمر قال له : لقد علمت أنا أمرنا بالغسل قلت : أنتم أيها المهاجرون الأولون أم الناس جميعا قال : لا أدري . رواته ثقات إلا أنه معلول ، وفي رواية أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن عمر قال : ألم تسمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل " وهذا ظاهر في عدم التخصيص بالمهاجرين الأولين ، ولم أقف في شيء من الروايات على جواب عثمان عن ذلك ، والظاهر [ ص: 376 ] أنه سكت عنه اكتفاء بالاعتذار الأول لأنه قد أشار إلى أنه كان ذاهلا عن الوقت وأنه بادر عند سماع النداء ، وإنما ترك الغسل لأنه تعارض عنده إدراك سماع الخطبة والاشتغال بالاغتسال وكل منهما مرغب فيه فآثر سماع الخطبة ، ولعله كان يرى فرضيته فلذلك آثره قاله الحافظ ، قال : وفي هذا الحديث من الفوائد القيام في الخطبة وعلى المنبر وتفقد الإمام رعيته وأمره لهم بمصالح دينهم وإنكاره على من أخل منهم بالفضل وإن كان عظيم المحل ومواجهته بالإنكار ليرتدع من دونه بذلك ، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدها ، وسقوط الإنصات عن المخاطب بذلك والاعتذار إلى ولاة الأمور وإباحة الشغل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء ولو أفضى إلى ترك البكور إلى الجمعة ; لأن عمر لم يأمر برفع السوق لأجل هذه القضية ، واستدل به مالك على أن السوق لا يمنع يوم الجمعة قبل النداء لكونها كانت في زمان عمر والذاهب إليها مثل عثمان وفيه شهود الفضلاء السوق ومعناه التجر فيها ، وأن فضيلة التوجه إلى الجمعة إنما تحصل قبل التأذين .

                                                                                                          قال عياض : وفيه أن السعي إنما يجب بسماع الأذان ، وأن شهود الخطبة لا يجب وهو مقتضى قول أكثر المالكية ، وتعقب بأنه لا يلزم من التأخير إلى سماع النداء فوات الخطبة بل قول عثمان ما زدت على أن توضأت يشعر بأنه لم يفته شيء من الخطبة ، وعلى أنه فاته شيء منها فلا دلالة فيه ، على أنه لا يجب شهودها على من تنعقد به الجمعة ، واستدل به على أن غسل الجمعة واجب لقطع عمر الخطبة وإنكاره على عثمان تركه وهو متعقب لأنه أنكر عليه ترك السنة وهي التبكير إلى الجمعة فيكون الغسل كذلك ، وعلى أن الغسل ليس شرطا لصحة الجمعة اهـ .

                                                                                                          وقال الباجي : رأى عمر اشتغاله بسماع الخطبة والصلاة أولى من خروجه للغسل ولذا لم يأمر به ولا أنكر عليه قعوده ، ويقتضي ذلك إجماع الصحابة على أن غسل الجمعة ليس بواجب .

                                                                                                          وقال ابن عبد البر : قد روي هذا الحديث مرفوعا ، ثم أخرج من طريق محمد بن أبي عمر العدني قال : حدثنا بشر بن السري عن عمر بن الوليد السني عن عكرمة عن ابن عباس قال : " جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يلهو أحدكم حتى إذا كادت الجمعة تفوته جاء يتخطى رقاب الناس يؤذيهم " ، فقال : ما فعلت يا رسول الله ولكن كنت راقدا ثم استيقظت وقمت فتوضأت ثم أقبلت ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أويوم وضوء هذا ؟ " قال أبو عمر : كذا روي مرفوعا وهو عندي وهم لا أدري ممن ، وإنما القصة محفوظة لعمر لا للنبي - صلى الله عليه وسلم - .




                                                                                                          الخدمات العلمية