الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        48 - الحديث الخامس : عن علي رضي الله عنه : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا ، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس } . وفي لفظ لمسلم { شغلونا عن الصلاة الوسطى - صلاة العصر - ثم صلاها بين المغرب والعشاء } .

                                        49 - وله عن عبد الله بن مسعود قال { حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العصر ، حتى احمرت الشمس أو اصفرت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى - صلاة العصر - ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا ، أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا } .

                                        التالي السابق


                                        فيه بحثان . أحدهما : أن العلماء اختلفوا في تعيين الصلاة الوسطى فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنها العصر . ودليلهما هذا الحديث ، مع غيره . وهو قوي في [ ص: 173 ] المقصود . وهذا المذهب هو الصحيح في المسألة . وميل مالك والشافعي إلى اختيار " صلاة الصبح " والذين اختاروا ذلك اختلفوا في طريق الجواب عن هذا الحديث . فمنهم من سلك فيه مسلك المعارضة . وعورض بالحديث الذي رواه مالك من حديث أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال { أمرتني عائشة : أن أكتب لها مصحفا ، ثم قالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فلما بلغتها آذنتها ، فأملت علي : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، صلاة العصر . وقوموا لله قانتين . ثم قالت : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم } وروى مالك أيضا عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع قال { كنت أكتب مصحفا لحفصة أم المؤمنين . فقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فلما بلغتها آذنتها . فأملت علي : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، وصلاة العصر وقوموا لله قانتين } . ووجه الاحتجاج منه : أنه عطف " صلاة العصر " على " الصلاة الوسطى " والمعطوف والمعطوف عليه متغايران .



                                        ويقع الكلام في هذا من وجهين :

                                        أحدهما : أنه يتعلق بمسألة أصولية . وهو أن ما روي من القرآن بطريق الآحاد - إذا لم يثبت كونه قرآنا - فهل يتنزل منزلة الأخبار في العمل به ؟ فيه خلاف بين الأصوليين . والمنقول عن أبي حنيفة : أنه يتنزل منزلة الأخبار في العمل به . ولهذا أوجب التتابع في صوم الكفارة للقراءة الشاذة " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " والذي اختاره : خلاف ذلك ، وقالوا : لا سبيل إلى إثبات كونه قرآنا بطريق الآحاد ، ولا إلى إثبات كونه خبرا ; لأنه لم يرو على أنه خبر .

                                        الثاني : احتمال اللفظ للتأويل ، وأن يكون ذلك كالعطف في قول الشاعر :

                                        إلى الملك القرم وابن الهمام ، وليث الكتيبة في المزدحم

                                        فقد وجد العطف هاهنا مع اتحاد الشخص . وعطف الصفات بعضها على بعض موجود في كلام العرب . وربما سلك بعض من رجح أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح : طريقة أخرى وهو ما يقتضيه قرينة قوله تعالى { وقوموا لله قانتين } من كونها " الصبح " الذي فيه القنوت . وهذا ضعيف من وجهين :

                                        [ ص: 174 ] أحدهما : أن " القنوت " لفظ مشترك . يطلق على القيام ، وعلى السكوت ، وعلى الدعاء ، وعلى كثرة العبادة فلا يتعين حمله على " القنوت " الذي في صلاة الصبح .

                                        الثاني : أنه قد يعطف حكم على حكم ، وإن لم يجتمعا معا في محل واحد مختصمين به . فالقرينة ضعيفة .

                                        وربما سلكوا طريقا أخرى . وهو إيراد الأحاديث التي تدل على تأكيد أمر صلاة الفجر . كقوله صلى الله عليه وسلم { لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا } ولكونهم كانوا يعلمون نفاق المنافقين بتأخرهم عن صلاة العشاء والصبح . وهذا معارض بالتأكيدات الواردة في " صلاة العصر " كقوله صلى الله عليه وسلم { من صلى البردين دخل الجنة } وكقوله { فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } وقد حمل قوله عز وجل { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } على صلاة الصبح والعصر . بل نزيد ، فنقول : قد ثبت من التشديد في ترك صلاة العصر ما لا نعلمه ورد في صلاة الصبح . وهو قوله صلى الله عليه وسلم { من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله } . وربما سلك من رجح الصبح طريق المعنى ، وهو أن تخصيص الصلاة الوسطى بالأمر بالمحافظة لأجل المشقة في ذلك . وأشق الصلوات : صلاة الصبح ; لأنها تأتي في حال النوم والغفلة . وقد قيل : إن ألذ النوم إغفاءة الفجر . فناسب أن تكون هي المحثوث على المحافظة عليها . وهذا قد يعارض في صلاة العصر بمشقة أخرى ، وهي أنها وقت اشتغال الناس بالمعاش والتكسب ، ولو لم يعارض بذلك لكان المعنى الذي ذكره في صلاة الصبح ساقط الاعتبار ، مع النص على أنها العصر . وللفضائل والمصالح مراتب لا يحيط بها البشر . فالواجب اتباع النص فيها . وربما سلك المخالف لهذا المذهب مسلك النظر في كونها " وسطى " من [ ص: 175 ] حيث العدد . وهذا عليه أمران :

                                        أحدهما : أن " الوسطى " لا يتعين أن تكون من حيث العدد . فيجوز أن تكون من حيث الفضل ، كما يشير إليه قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } أي عدولا .

                                        الثاني : أنه إذا كان من حيث العدد ، فلا بد من أن يعين ابتداء في العدد يقع بسببه معرفة الوسط . وهذا يقع فيه التعارض . فمن يذهب إلى أنها " الصبح " يقول : سبقها المغرب والعشاء ليلا . وبعدها الظهر والعصر نهارا . فكانت هي الوسطى . ومن يقول " هي المغرب " يقول : سبق الظهر والعصر وتأخر العشاء والصبح ، فكانت المغرب هي وسطى . ويترجح هذا بأن صلاة الظهر قد سميت الأولى . وعلى كل حال : فأقوى ما ذكرناه : حديث العطف الذي صدرنا به . ومع ذلك : فدلالته قاصرة عن هذا النص الذي استدل به على أنها " العصر " والاعتقاد المستفاد من هذا الحديث : أقوى من الاعتقاد المستفاد من حديث العطف . والواجب على الناظر المحقق : أن يزن الظنون ، ويعمل بالأرجح منها .



                                        البحث الثاني : قوله " ثم صلاها بين المغرب والعشاء " يحتمل أمرين :

                                        أحدهما : أن يكون التقدير : فصلاها بين وقت المغرب ووقت العشاء .

                                        والثاني : أن يكون التقدير : فصلاها بين صلاة المغرب وصلاة العشاء وعلى هذا التقدير : يكون الحديث دالا على أن ترتيب الفوائت غير واجب ; لأنه يكون صلاها - أعني العصر الفائتة - بعد صلاة المغرب الحاضرة . وذلك لا يراه من يوجب الترتيب ، إلا أن هذا الاستدلال يتوقف على دليل يرجح هذا التقدير - أعني قولنا : بين صلاة المغرب وصلاة العشاء - على التقدير الأول - أعني قولنا : بين وقت المغرب ووقت العشاء - فإن وجد دليل على هذا الترجيح تم الاستدلال ، وإلا وقع الإجمال . وفي هذا الترجيح - الذي أشرنا إليه - مجال للنظر على حسب قواعد علم العربية والبيان . وقد ورد التصريح بما يقتضي الترجيح للتقدير الأول وهو { أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالعصر وصلى بعدها المغرب } وهو حديث صحيح . فلا يلتفت إلى غيره من الاحتمالات والترجيحات . والله أعلم .

                                        . وحديث ابن مسعود الآتي عقيب هذا الحديث : يدل على أن " الصلاة الوسطى : صلاة العصر " أيضا ، كما في الحديث . [ ص: 176 ] وقوله فيه " حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس ، أو اصفرت " وقت الاصفرار : وقت الكراهة . ويكون وقت الاختيار خارجا . ولا تؤخر الصلاة عن وقت الاختيار . فقد ورد أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } والمراد بذلك : أنه لو كانت الآية نزلت لأقيمت الصلاة في حالة الخوف على ما اقتضته الآية . وقوله " حتى اصفرت الشمس " قد يتوهم منه مخالفة لما في الحديث الأول ، من صلاتها بين المغرب والعشاء . وليس كذلك ، بل الحبس انتهى إلى هذا الوقت . ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب ، كما في الحديث الأول . وقد يكون ذلك الاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها ، فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتض لجواز التأخير إلى ما بعد الغروب . .



                                        وفي الحديث : دليل على جواز الدعاء على الكفار بمثل هذا . ولعل قائلا يقول : فيه متمسك لعدم رواية الحديث بالمعنى . فإن ابن مسعود تردد بين قوله " ملأ الله " أو " حشا الله " ولم يقتصر على أحد اللفظين ، مع تقاربهما في المعنى . وجوابه : أن بينهما تفاوتا . فإن قوله " حشا الله " يقتضي من التراكم وكثرة أجزاء المحشو ما لا يقتضيه " ملأ " وقد قيل : إن شرط الرواية بالمعنى : أن يكون اللفظان مترادفين ، لا ينقص أحدهما عن الآخر . على أنه وإن جوزنا بالمعنى ، فلا شك أن رواية اللفظ أولى . فقد يكون ابن مسعود تحرى لطلب الأفضل . .




                                        الخدمات العلمية