الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        132 - الحديث الأول عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع في السفر بين صلاة الظهر والعصر ، إذا كان على ظهر سير ، ويجمع بين المغرب والعشاء } .

                                        التالي السابق


                                        هذا اللفظ في هذا الحديث ليس في كتاب مسلم . وإنما هو في كتاب البخاري وأما رواية ابن عباس . في الجمع بين الصلاتين في الجملة من غير اعتبار لفظ بعينه : فمتفق عليه . ولم يختلف الفقهاء في جواز الجمع في الجملة ، لكن أبا حنيفة يخصصه بالجمع بعرفة ومزدلفة ، وتكون العلة فيه : النسك ، لا السفر . ولهذا يقال : لا يجوز الجمع عنده بعذر السفر ، وأهل هذا المذهب : يؤولون الأحاديث التي وردت بالجمع على أن المراد تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها ، [ ص: 330 ] وتقديم الثانية في أول وقتها . وقد قسم بعض الفقهاء الجمع إلى جمع مقارنة وجمع مواصلة . وأراد بجمع المقارنة : أن يكون الشيئان في وقت واحد ، كالأكل والقيام مثلا ، فإنهما يقعان في وقت واحد . وأراد بجمع المواصلة : أن يقع أحدهما عقيب الآخر ، وقصد إبطال تأويل أصحاب أبي حنيفة بما ذكرناه ، لأن جمع المقارنة لا يمكن في الصلاتين ، إذ لا يقعان في حالة واحدة ، وأبطل جمع المواصلة أيضا . وقصد بذلك إبطال التأويل المذكور إذ لم يتنزل على شيء من القسمين . وعندي : أنه لا يبعد أن يتنزل على الثاني ، إذا وقع التحري في الوقت . أو وقعت المسامحة بالزمن اليسير بين الصلاتين إذا وقع فاصلا . لكن بعض الروايات في الأحاديث لا يحتمل لفظها هذا التأويل ، إلا على بعد كبير ، أو لا يحتمل أصلا . فأما ما لا يحتمل ، فإذا كان صحيحا في سنده ، فيقطع العذر . وأما ما يبعد تأويله : فيحتاج إلى أن يكون الدليل المعارض له أقوى من العمل بظاهره . وهذا الحديث الذي في الكتاب ليس يبعد تأويله كل البعد بما ذكر من التأويل . وأما ظاهره : فإن ثبت أن الجمع حقيقة لا يتناول صورة التأويل ، فالحجة قائمة به ، حتى يكون الدليل المعارض له أقوى من ذلك التأويل من هذا الظاهر .

                                        والحديث يدل على الجمع إذا كان على ظهر سير . ولولا ورود غيره من الأحاديث بالجمع في غير هذه الحالة لكان الدليل يقتضي امتناع الجمع في غيرها . لأن الأصل : عدم جواز الجمع ، ووجوب إيقاع الصلاة في وقتها المحدود لها ، وجواز الجمع بهذا الحديث : قد علق بصفة مناسبة للاعتبار . فلم يكن ليجوز إلغاؤها . لكن إذا صح الجمع في حالة النزول فالعمل به أولى ، لقيام دليل آخر على الجواز في غير هذه الصورة ، أعني السير ، وقيام ذلك الدليل يدل على إلغاء اعتبار هذا الوصف . ولا يمكن أن يعارض ذلك الدليل بالمفهوم من هذا الحديث . [ ص: 331 ] لأن دلالة ذلك المنطوق على الجواز في تلك الصورة بخصوصها أرجح . وقوله " وكذلك المغرب والعشاء " يريد في طريق الجمع ، وظاهره : اعتبار الوصف الذي ذكره فيهما : وهو كونه على ظهر سير . وقد دل الحديث على الجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء .

                                        ولا خلاف أن الجمع ممتنع بين الصبح وغيرها ، وبين العصر والمغرب ، كما لا خلاف في جواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة . ومن ههنا ينشأ نظر القائسين في مسألة الجمع . فأصحاب أبي حنيفة : يقيسون الجمع المختلف فيه على الجمع الممتنع اتفاقا ويحتاجون إلى إلغاء الوصف الفارق بين محل النزاع ومحل الإجماع . وهو الاشتراك الواقع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، إما مطلقا أو في حالة العذر . وغيرهم يقيس الجواز في محل النزاع على الجواز في محل الإجماع . ويحتاج إلى إلغاء الوصف الفارق ، وهو إقامة النسك .




                                        الخدمات العلمية