الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 518 ] ومن كتاب الأشربة

أخبرني عبد الرزاق بن إسماعيل وجماعة ، قالوا : أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن الحسين القاضي ، أخبرنا أحمد بن محمد الحافظ ، أخبرنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا يوسف بن حماد المعني البصري ، حدثني عبد الوارث ، عن أبي التياح قال حفص الليثي : أشهد على عمران أنه حدثنا ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير ، وعن التختم بالذهب ، وعن الشرب في الحناتم .

قرئ على أبي طاهر روح بن بدر وأنا أسمع ، أخبرك محمود بن إسماعيل ، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين ، أخبرنا سليمان بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن محمد السوطي ، حدثنا عفان ، حدثنا شعبة ، عن أبي التياح ، عن حفص الليثي ، عن عمران بن حصين قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحنتم . قلت : الحنتم : الجر الأخضر .

أخبرني أبو الفضل الأديب ، أخبرنا سعد بن علي ، أخبرنا القاضي أبو الطيب ، أخبرنا علي بن عمر ، حدثنا الحسين بن إسماعيل ، حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام ، حدثنا نوح بن قيس ، عن ابن عون ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لوفد عبد القيس : لا تشربوا في نقير ، ولا مقير ، ولا دباء ، ولا حنتم ، ولا مزادة .

قلت : النقير أصل النخلة ؛ ينقر ويتخذ منه ظرف ، والدباء القرع ، والحنتم ذكرناه .

[ ص: 519 ] وإنما نهى عن هذه الأوعية لأن لها ضراوة يشتد فيها النبيذ ، ولا يشعر بذلك صاحبها ، فيكون على غرر من شربها .

وقد اختلف الناس في هذا الباب :

فذهب بعضهم إلى أن الخطر باق ، وكرهوا أن ينبذ في هذه الأوعية ، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق ، قال الخطابي : قد يروى ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس .

وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الحظر كان في مبدأ الأمر ، ثم رفع الحظر ، وصار منسوخا ، وتمسكوا في ذلك بأحاديث ثابتة صحيحة تصرح بالنسخ ، وأكثرها نصوص .

أخبرني محمد بن إبراهيم بن علي ، أخبرنا يحيى بن عبد الوهاب ، أخبرنا محمد بن أحمد ، حدثنا عبد الله بن جعفر الحافظ ، حدثنا إسحاق بن أحمد ، حدثنا محمد بن علي بن حمزة ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا سفيان الثوري ، عن علقمة بن مرثد ، عن سلمان بن بريدة ، عن أبيه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها ؛ فإنها تذكر الآخرة ، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليتسع ذوو الطول على من لا طول له ، فكلوا ما بدا لكم ، وأطعموا وادخروا ، ونهيتكم عن الظروف ، وإن الظروف لا تحرم شيئا ولا تحله ، وكل مسكر حرام .

قرأت على محمد بن ذاكر بن محمد المستملي ، أخبرك الحسن بن أحمد ، أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب ، أخبرنا علي بن عمر ، حدثنا علي بن أحمد [ ص: 520 ] بن الهيثم ، حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا محمد بن جابر ، عن سماك ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن ابن بريدة ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كنا نهيناكم عن الشرب في الأوعية ، فاشربوا في أي سقاء شئتم ، ولا تشربوا مسكرا .

جود يحيى بن يحيى إسناد هذا الحديث ، وهو إمام ، وقال أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن القزويني ، حدثنا محمد بن الفضل الطبري ، حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، حدثنا ابن أبان أبو خالد ، عن عمرو بن دينار مولى الزبير ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا إني كنت نهيتكم عن نبيذ الجر ، وإن الأوعية لا تحل شيئا ولا تحرم ، فاشربوا ولا تشربوا مسكرا .

وأنكر من نصر القول الأول ؛ ورود النسخ على الظروف كلها ، وقال : كان النهي ورد عن الظروف كلها ثم نسخ ، منها ظروف الأدم ، وما عداها من المزفت والحناتم وغيرها باق على أصل الحظر ، وتمسكوا في ذلك بما أخبرنا عبد الله بن حبيب بن أبي القاسم القزويني ، أخبرنا محمد بن الفضل بن أحمد الفقيه ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد التاجر ، أخبرنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا مسلم ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وابن أبي عمر ، واللفظ لابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن مجاهد ، عن أبي عياض ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النبيذ في الأوعية قالوا : ليس كل الناس يجد . فأرخص لهم في الجر غير المزفت .

[ ص: 521 ] قالوا : وهذا حديث صحيح يدل على صحة ما ذكرناه ، ويدل عليه أيضا ما رواه شعبة ، عن عقبة بن حريث : سمعت ابن عمر يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجر ، والدباء ، والمزفت ، وقال : انتبذوا في الأسقية .

وهذا حديث صحيح ؛ ألا ترى أن النهي في حديث عبد الله بن عمرو عم الأوعية كلها ؛ فتناول الأسقية وغيرها من الظروف ، ثم بين في حديث ابن عمرو وفصل بين ما هو باق على أصل الحظر ، وما هو منسوخ ؟ !

وقال من نصر القول الثاني : لا يمكن الاستدلال بحديث ابن عمر ؛ لأنه قصر في الحديث ، ورواه مختصرا على ما سمعه ، وغيره رواه أحسن سياقا منه ، وأتم من حديثه ، وقد أجمعنا على قبول الزيادة من الثقات ، وتمسكوا بأحاديث :

منها ما قرئ على إبراهيم بن علي الفقيه وأنا أسمع ، أخبرك أبو عبد الله محمد بن الفضل ، أخبرنا أبو الحسين التاجر ، أخبرنا محمد بن عيسى ، أخبرنا إبراهيم بن محمد الفقيه ، أخبرنا مسلم ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا ضرار بن مرة ، حدثنا سنان ، عن محارب بن دثار ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء ؛ فاشربوا في الأسقية كلها ، ولا تشربوا مسكرا ويحتمل معنى آخر : وهو أنا نقول : دلت الأحاديث الثابتة على أن النهي كان مطلقا على الظروف كلها ، ودل بعضها أيضا على السبب الذي لأجله رخص فيها ، وهو أنهم شكوا إليه الحاجة إليها ، فرخص لهم في ظروف الأدم لا غير ، ثم إنهم شكوا إليه أن ليس كل أحد يجد سقاء ، فرخص لهم في الظروف كلها ؛ ليكون جمعا بين الأحاديث كلها ، سيما بين حديث بريدة من الوجه الذي سقناه ، وبين حديث عبد الله بن عمر ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية