الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 73 ] الفصل الخامس : في الإقامة

                                                                                                                ففي الجلاب هي عشر كلمات يريد عشر جمل من الكلام ، وإلا فهو اثنان وثلاثون كلمة ، وهذا مجاز مشهور من باب تسمية الكل باسم الجزء كما أن العرب تسمي القصيدة كلمة ، وهي مرة مرة إلا التكبير خلافا لـ ( ح ) في قوله هي مرتين ، وكذلك قد قامت الصلاة ، وخلافا لـ ( ش ) في قوله هي مرة مرة إلا التكبير والإقامة . لنا ما في مسلم أنه - عليه السلام - أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة . والأحاديث قد وردت على وفق المذاهب كلها لكن أرجحها ما وافق عمل المدينة ، وفي الجلاب هي سنة آكد من الأذان ، وفي الكتاب ليس على النساء أذان ، ولا إقامة ، وإن أقمن فحسن ، وروى ابن وهب عن عبد الله بن عمر ، وجماعة من السلف : أن المرأة ليس عليها أذان ، ولا إقامة واستحسان إقامتهن للشافعي ، وأبي حنيفة أيضا إذا أقمن لأنفسهن ، لا للجماعات ; لأنهما ذكر فأشبهت النسخ ، قال [ ص: 74 ] صاحب الطراز : وروي عن مالك عدم الاستحسان ; لأن أزواجه - عليه السلام - لم ينقل عنهن ذلك ، قال : والفرق بين المرأة والصبي في كونه يقيم أن الصبي يؤمر بذلك بعد البلوغ فيمرن عليه قبل البلوغ ، ولأن الصبي لا ينكر رفع صوته .

                                                                                                                فروع عشرة :

                                                                                                                الأول : قال في الكتاب : لا بأس أن يقيم غير من أذن خلافا لـ ( ش ) في الكراهة محتجا بما في أبي داود أن زياد بن الحارث قال : أمرني عليه السلام أن أذن في صلاة الصبح فأذنت ، فأراد بلال أن يقيم فقال عليه السلام : إن أخا صداء أذن فمن أذن فهو يقيم .

                                                                                                                وجوابه أنه يدل على جواز أمر الإمام بذلك ; لأنه تصرف بالإمامة منه عليه السلام لا بالفتوى ; لأن زيادا كان حديث عهد بالإسلام ، فأراد عليه السلام تأليفه لما في أبي داود من حديث عبد الله بن زيد المازني حين رأى الأذان في منامه ، فأمره عليه السلام أن يلقيه على بلال ففعل فأذن بلال ، فقال عبد الله : أنا رأيته وأنا كنت أريده ، فقال عليه السلام : فأقم أنت . ولأنها عبادة مستقلة عن الأذان بدليل توجهها على المنفرد دونه فجاز أن يقعا من اثنين كالإقامة والإمامة .

                                                                                                                الثاني : قال في الكتاب : لا يقيم راكبا ، وفي الجلاب روايتان ، وروى ابن وهب في المدونة عن سالم بن عبد الله أنه كان ينادي بالصلاة على البعير [ ص: 75 ] فإذا نزل أقام ، وأن ابن عمر كان يفعله ; لأن السنة إيصال الإقامة بالصلاة ، والنزول عن الدابة وعقلها وإصلاح المتاع طول .

                                                                                                                الثالث : إذا كان المستحب إيصالها بالصلاة فهل يبعد المؤذن عن الإمام مثل الجامع الواسع يخرج إلى بابه ، أو يصعد على سطحه فيقيم ؟ قال ابن القاسم : يفعل إن كان يسمع من حوله وإلا فهو خطأ ، وقال مالك في المجموعة وأشهب : يقيم في الصحن ، وفي الموطأ أن عبد الله بن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي إلى المسجد ، ولو كانت الإقامة في داخل المسجد لم يسمعها .

                                                                                                                وفي مختصر ابن عبد الحكم لا بأس بالكلام الخفيف بعد الإقامة ، ما لم يحرم الإمام فإذا أحرم فلا يتكلم أحد ، ولا يقيم في المسجد بعد إقامة المؤذن .

                                                                                                                الرابع : قال في الكتاب : إن نسي الإقامة فلا شيء عليه ، وإن تعمد فليستغفر الله ولا شيء عليه . قال صاحب الطراز : وعند ابن كنانة يعيد في الوقت والأول أصح ، فقد جوز النخعي ، والشعبي ، وابن حنبل ، وأصحاب الرأي للفذ ترك الإقامة ، وبالقياس على الأذان .

                                                                                                                فرع : مرتب :

                                                                                                                قال : فلو ظن أن ذلك يؤثر نقصا فسجد له بعد السلام فلا شيء عليه ، وقال في مختصر الطليطلي : يعيد ; لأنه أدخل في الصلاة ما ليس منها كمن زاد جاهلا .

                                                                                                                الخامس : قال : لو تركها جهلا حتى أحرم ، قال مالك في المجموعة : لا [ ص: 76 ] يقطع ، قال : ولو أنه بعد إحرامه أقام وصلى فقد أساء وليستغفر الله تعالى . قال صاحب الطراز : يريد أنه أقام ، ثم أحرم بعد ذلك فيكون قد خرج من الإحرام الأول بنيته ، وقوله المنافي له حي على الفلاح قد قامت الصلاة ، ولو تمادى على إحرامه الأول أعاد الصلاة .

                                                                                                                سؤال : كيف يطلق لفظ الاستغفار المختص بالذنوب في ترك السنن ، وتركها ليس ذنبا حتى يستغفر ؟

                                                                                                                جوابه : أن الله سبحانه وتعالى يحرم العبد من التقرب إليه بالنوافل والفرائض عقوبة له على ذنبه ، ويعينه على التقرب بسبب طاعته ; لقوله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) ولقوله تعالى : ( فأما من أعطى واتقى ) إلى قوله : ( فسنيسره لليسرى ) ، ( وأما من بخل واستغنى ) إلى قوله : ( فسنيسره للعسرى ) فإذا استغفر من ذنوبه غفرت له بفضل الله ، وأمن حينئذ من الابتلاء بالمؤاخذة بالحرمان .

                                                                                                                السادس : من خاف فوات الوقت ترك الإقامة ، قال أشهب في المجموعة : تقديما للفرض على فضيلة الإقامة ويشكل عليه ترك الإسراع الشديد وإن فاتته الجمعة حفظا للخشوع .

                                                                                                                السابع : قال في الكتاب : إذا دخل المسجد وقد صلى أهله لا تجزئه إقامتهم .

                                                                                                                [ ص: 77 ] وهذا يدل على تأكد الإقامة ، وقال في المبسوط : يقيم أحب إلي . وجه الأول : أنها أهبة للصلاة ولذلك شرعت في الفوائت . وجه الثاني : أنها دعاء للصلاة وهذا إنما يتصور في حق الفذ وهو مذهب أبي حنيفة ، وكذلك قال في الكتاب : من صلى في بيته لا تكفيه إقامة أهل مصر ، وللشافعي في ذلك قولان ; لأن المسجد قد أدى فيه حق الإقامة فلا تتعدد بتعدد الفذ كما لا تتعدد بتعدد الجماعة الكائنين في المسجد .

                                                                                                                حجة المذهب : أنه ليس معهم في صلواتهم فأشبه مسجدا آخر ومسافرا مع مقيم .

                                                                                                                الثامن : قال في الكتاب : ينتظر الإمام بعد الإقامة قليلا قدر ما تستوي الصفوف ، ثم يكبر ولا يكون بين التكبير والقرآن شيء ، وقد كان عمر وعثمان - رضي الله عنهما - يوكلان رجلا لتسوية الصفوف ، فإذا أخبروهما بذلك كبرا وكذلك قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة كبر الإمام ، محتجا بما يروى أن بلالا قال : يا رسول الله إنك لتستغني بأمين ، ولا يصدق المؤذن في قوله قد قامت الصلاة ، لنا ما في الصحيحين أنه قال : إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت ، وهذا دليل على تأخر خروجه ولأن المنفرد لا يحرم حتى يفرغ ، وكذلك الجماعة وجوابهم أن الحديث ليس في الصحاح ، ولا مشهور ولعل السبق يتفاوت بقراءتهما لا بتعجيل الإحرام ، وأما التصديق فإن معنى قد قامت الصلاة تأهبوا لها كما نقول قد قامت الحرب فالكل صادق سواء أحرم الإمام أو تأخر فإذا كانت إخبارا عن التأهب فهو حاصل فلا كذب في التأخر ، وأما تسوية الصفوف ففي [ ص: 78 ] مسلم كان عليه السلام يمسح مناكبنا في الصلاة ، ويقول : استووا في الصفوف ، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم . وفي البخاري رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه . وفي أبي داود أنه عليه السلام قال : " أقيموا الصفوف ، وحاذوا بين المناكب ، وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ، ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله ، ومن قطع صفا قطعه الله " .

                                                                                                                التاسع : قال في الكتاب : لا توقيت لقيام الناس إذا أقيمت الصلاة ، فإن فيهم القوي والضعيف ، وقال أبو حنيفة : إذا قال المؤذن حي على الفلاح قام الإمام فإن ذلك أمر بالمسارعة فيمتثل ، وقال زفر عند قوله قد قامت الصلاة ، وقال مالك في المجموعة : يقومون بقدر ما إذا استوت الصفوف وفرغت الإقامة .

                                                                                                                العاشر : قال صاحب البيان : قال مالك : إذا أقيمت عليه صلاة وهو في صلاة أخرى إن طمع في فراغها قبل ركوع الإمام الركعة الأولى أتمها ودخل مع الإمام لوجوبها عليه قبل الحاضرة ، وإن يئس قطعها ودخل معه ، ثم استأنف الصلاتين قال ابن القاسم : وأحب إلي أن يتمها ركعتين إن كان قد ركع لقوله تعالى : ( ولا تبطلوا أعمالكم ) . إلا أن يخاف فوات ركعة الإمام فيقطع من ركعة بسلام قال : فإن كان يصلي تلك الصلاة بعينها ففي المدونة إن لم يركع قطع ، وإن أمكنه صلاة ركعتين قبل ركوع الإمام قال صاحب البيان : وصلاته مع الإمام إنما هي نافلة لامتناع صلاة العصر قبل الظهر ، وقد قال في المدونة : لا يصلي نافلة ولم [ ص: 79 ] يصل الفريضة ، وإنما جوزنا هاهنا ذلك لما في الخروج من المسجد بعد الإقامة من تعريضه لسوء الظن ، ولم يلتفت إلى هذا المعنى في المدونة ، وقال في سماع سحنون يضع يده على أنفه ويخرج .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية