الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                ثم النظر في العورة ما هي وفي سائرها ؟ أما العورة فثلاثة أقسام :

                                                                                                                القسم الأول : الرجال ، في الجواهر أجمعت الأمة على أن السوءتين من الرجال عورة وفي غيرها ثلاثة أقوال : من السرة إلى الركبة ، وهما غير داخلتين وهو مذهب العراقيين والشافعي ، ووافقهم أبو حنيفة في السرة ، وخالف في الركبة ; لأنها مفصل وعظم الفخذ فيها وهو عورة فتكون عورة أو هما داخلتان ، أو السوءتان فقط . وروى أبو الفرج ما ظاهره أن جميع بدن الرجل عورة في الصلاة . وجه المذهب ما في أبي داود أنه - عليه السلام - قال لعلي : غط فخذك ، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت . وجه الاقتصار على السوءتين ما في مسلم والبخاري : أنه عليه السلام يوم خيبر انكشف [ ص: 103 ] الإزار عن فخذه ، قال أنس : حتى إني لأنظر إلى بياض فخذه عليه السلام .

                                                                                                                قال صاحب الاستذكار : حديث علي - رضي الله عنه - ضعيف ، والذي يقتضيه النظر أن العورة السوءتان ، والفخذ والعانة حريم لهما .

                                                                                                                القسم الثاني : الإماء وهن مثل الرجال ، قال في الكتاب : شأن الأمة أن تصلي بغير قناع ، قال صاحب الطراز : اختلف في قوله شأنها هل معناه لا تندب إلى ذلك وهو الأظهر كالرجل ، أو يجوز لها ذلك مع الندب للستر ؟ وهو اختيار صاحب الجلاب وقد كان عمر - رضي الله عنه - يمنع الإماء من الإزار وقال لابنه : ألم أخبر أن جاريتك خرجت في الإزار وتشبهت بالحرائر ، ولو لقيتها لأوجعتها ضربا .

                                                                                                                فائدة :

                                                                                                                معنى نهي عمر - رضي الله عنه - الإماء عن تشبههن بالحرائر : أن السفهاء جرت عادتهم بالتعرض للإماء دون الحرائر فخشي - رضي الله عنه - أن يلتبس الأمر فيتعرض السفهاء للحرائر ذوات الجلالة فتكون المفسدة أعظم ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) أي : أن يتميزن بعلاماتهن عن غيرهن ! وألحق في الكتاب المكاتبة والمدبرة ، والمعتق بعضها بالأمة القن ، وأم الولد بالحرة ، وألحق صاحب الجلاب المكاتبة بأم الولد في استحباب الستر ، وألحق الشافعية الجميع بالأمة القن نظرا للميراث ونحن ننظر إلى عقود الحرية مع أنه قال في الكتاب : لا تصلي الأمة إلا [ ص: 104 ] وعلى جسدها ثوب . قال صاحب الطراز : والأمر بذلك متفق عليه ، إنما الخلاف في الوجوب وسواء كانت من العلي أو الوخش ، والمشهور عدم الوجوب . قال ابن حبيب : لو صلت الأمة مكشوفة الفخذ أعادت في الوقت ، وقوله تعالى : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) يقتضي العفو عن الوجه واليدين من الحرة ; لأنه الذي يظهر عند الحركات للضرورة وعما يظهر من الأمة عند التقليب للشراء ، وهو ما عدا السرة والركبة .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال صاحب الطراز : لو أحرمت مكشوفة الساق أو نحوه مما يجوز لها كشفه فعتقت ، فقيل تستر ذلك ، وتتمادى إن كانت السترة قريبة وهو المشهور عندنا ، فإن بعدت فقيل تتمادى ، وقيل تقطع فإن قربت ولم تستر ، فقال ابن القاسم : تعيد في الوقت ، وكذلك العريان خلافا لـ ( ح ) مفرقا بينهما فإن هذه حالة ضرورة بخلاف الأمة فإنها كانت يباح لها ذلك ، وقال سحنون : يقطعان ، وقال أصبغ : هي كالمتيمم يجد الماء في الصلاة لا إعادة عليها في الوقت ولا بعده . وروى ابن القاسم أحب إلي لو جعلتها نافلة وشفعتها وسلمت ، كمن سمع الإقامة ، وقال مالك : أحب إلي أن تعيد قال : وكذلك الخلاف في الحرة يلقي الريح خمارها ، والرجل يسقط إزاره ، قال ابن القاسم : إذا سقط ثوب الإمام فظهر فرجه ودبره ، أخذه مكانه وأجزأه إذا لم يبعد ذلك ، قال سحنون : ويعيد كل من نظر إلى فرجه ممن خلفه ولا شيء على من لم ينظر ، [ ص: 105 ] وقال في كتاب ابنه : صلاته وصلاتهم فاسدة وإن رده . قال صاحب البيان : بنى ابن القاسم على أصله أن ستر العورة سنة ، وعلى القول الآخر بفرضيتها يخرج ويستخلف ، فإن تمادى فصلاة الجميع فاسدة ، وهو قول سحنون قال : وآمر من نظر بالإعادة ; لأنه مرتكب لمعصية بالنظر ، قال : ويلزمه الإبطال بجميع وجوه العصيان وهو خلاف ما ذهب إليه التونسي من أنها تبطل لا بذلك ، ولا بالسرقة ، ولا بالغضب لو وقع في الصلاة ، ولذلك قال المازري : إن طرو اللباس على العريان والعتق على الأمة يتخرج على الخلاف في ستر العورة هل هي سنة وهي طريقة ابن القاسم ، أو فريضة وهي طريقة سحنون ؟ قال صاحب الطراز : فلو عتقت قبل الصلاة ولم تعلم حتى صلت ، قال أصبغ : تعيد في الوقت كما قال ابن القاسم ، وللشافعية قولان أحدهما : كقولنا ، والثاني تعيد أبدا ; لأنها مفرطة .

                                                                                                                القسم الثالث : الحرائر ، في الجواهر أجسادهن كلها عورة إلا الوجه والكفين قال في الكتاب : إذا صلت بادية الشعر أو ظهور القدمين أعادت في الوقت ، وقال أشهب في المجموعة : أو بعض الفخذ أو البطن ، وقال ابن نافع في العتبية : لا إعادة عليها ، ووافقنا الشافعي في أن القدمين عورة ، وخالفنا أبو حنيفة ، لنا ما في الموطأ عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئلت ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب ؟ فقالت : تصلي في الخمار ، والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها . وقد رفعه أبو داود للنبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                [ ص: 106 ] فروع خمسة :

                                                                                                                الأول : قال في الكتاب : إذا صلت متنقبة لا إعادة عليها . قال ابن القاسم : ذلك رأيي ، والتلثم كذلك ، ونهى الشافعي عنه ، وأوجب ابن حنبل تغطية وجهها ، وكفيها لنا أن ذلك ليس عورة في الإحرام فلا يكون عورة في الصلاة ، ويستحب كشفه لمباشرة السجود والتلثم يستر الأنف ، وفي الموطأ عن سالم بن عبد الله كان إذا رأى إنسانا يغطي فاه في الصلاة جبذ الثوب عنه حتى يكشف فاه . قال صاحب الطراز : ولمالك - رحمه الله - في كراهية تغطية اللحية قولان ، وكرهه أبو حنيفة .

                                                                                                                الثاني : قال في الكتاب : المراهقة بمنزلة الكبيرة ; لأن من أمر بالصلاة أمر بشروطها وفضائلها ، فلو صلت بغير قناع قال أشهب في المجموعة : تعيد في الوقت ، وكذلك الصبي يصلي عريانا قال : لو صليا بغير وضوء أعادا أبدا ، وقال سحنون في كتاب ابنه : لا يعيدان .

                                                                                                                الثالث : قال في الكتاب : العاجزون عن الستر يصلون أفذاذا قياما متباعدين بعضهم عن بعض ، وجماعة بإمام إن كانوا في ظلام . ووافقنا الشافعي في تفرقهم وقيامهم وعدم إيمائهم بالسجود ، وخيرهم أبو حنيفة بين القيام وبين [ ص: 107 ] الصلاة قعودا بإيماء ، وقال ابن حنبل رضي الله عنهم أجمعين : يجب القعود . لنا النصوص الدالة على وجوب الركوع والسجود ، وأنها أركان متفق عليها والسترة شرط مختلف فيه ، والأركان مقدمة على الشروط ، والمجمع عليه مقدم على المختلف فيه .

                                                                                                                قاعدة :

                                                                                                                الوسائل أبدا أخفض رتبة من المقاصد إجماعا ، فمهما تعارضا تعين تقديم المقاصد على الوسائل ، ولذلك قدمنا الصلاة على التوجه إلى الكعبة ; لكونه شرطا ووسيلة ، والصلاة مقصد ولذلك قدمنا الركوع والسجود اللذين هما مقصدان على السترة ، التي هي وسيلة فلو جمعوا نهارا قال صاحب الطراز : فعند ابن حبيب والشافعي يكونون صفا وإمامهم في صفهم ، قال : لأن الستر سقط عنهم بالعجز ، والتباعد مستحب لما فيه من غض البصر قال : فإن كثروا صفوا صفا آخر ، وغضوا أبصارهم فلو كانت امرأة لم تجد مكانا تستتر به عن الرجال ، قال مالك في العتبية : تصلي جالسة وإن كانت خلوة صلت قائمة ، قال صاحب الطراز : فلو كانوا في مكان ضيق صلى الرجال وصرف النساء وجوههن عنهم ، وصلى النساء وصرف الرجال وجوههم عنهن وهو قول الشافعي ، فإن لم يكونوا ديانين فلا يكلف النساء القيام ، ولا الركوع ولا السجود لما في ذلك من الضرر العظيم الذي لا يحتمله طباعهن .

                                                                                                                الرابع : قال صاحب الطراز : لو كان في العراة صاحب ثوب لم يجز له العري واستحب له بعد صلاته دفع الثوب لغيره تعاونا على البر والتقوى ، ولا يجب إذ لا يجب عليه كشف عورته ، وقال بعض الشافعية إذا كان [ ص: 108 ] معه فضل سترة لا يلزمه دفعه ، بخلاف فضل الطعام للمضطر ; لأنه لا مندوحة عنه ، والسترة سقطت بالعجز .

                                                                                                                الخامس : قال : لو أعير له ثوب لزمه قبوله للقدرة على السترة كالماء للمتيمم ، لقلة المنة في ذلك فلو وهب له فالشافعي لا يلزمه القبول ، كهبة الرقبة في الكفارة ويلزمه ، ويرده بعد صلاة ، ويلزم ربه أخذه قال : وهو الراجح فلو أعاره لجماعة والوقت ضيق صلى من لم يصل إليه عريانا ، ويعيد إذا وصل إليه في الوقت الموسع ، وقال الشافعي : يؤخرون ما دام وقت الأداء متسعا فإن لم يعر المكتسي أحدا السترة وهو يصلح للإمامة أمهم متقدما عليهم .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية